أصبحت تدوينة نهاية العام أمر إلزامي لا أعلم لماذا أثقل على نفسي بكتابتها،رغم أنني عادة كباقي الناس أفكر بماذا فعلت طوال السنة وما أهم إنجازاتي و إخفاقاتي .بنهاية 2018 فكرت بهذه العاطفة التي تجعل معظمنا ينجرف لا إراديًا إليها.ووصلت لقناعة بأن هذه طبيعة بالبشر لا يستطيع أكثرهم مقاومتها.ورغبت بأن أكون من أولئك القلة من لا يكترثون بالزمن وجريانه .لعل وعسى أن يتحقق الرجاء
بالأمس كنت أقرأ عن فيلسوف الأخلاق "سبينوزا" لقد عاش حتى يومه الأخير في حياته هادئاً غاية الهدوء،لا يكترث بالماضي ولابالمستقبل ،فقط لأنه يؤمن أن الجهل وحده من يجعلنا نظن أن بإمكاننا تعديل ما هو ثابت ثباتًا مستقلاً لا تعديل فيه وهذا برأيه هو افتقار للحكمة .
كانت نظرته تستهدف تحرير الناس من هاجس الخوف والرجاء: "فالرجل الحر لا يفكر في ما هو أدنى من الموت،وحكمته هي تأمل لا في الموت وإنما في الحياة" لقد كان مخلصاً إخلاصاً تامًا لهذا الاعتقاد وظل يمارسه بحياته ولم يُذكر بأية مناسبة أنه قد فقد ذلك الهدوء.وحتى بالجدال لم يخنه هدوءه بل كان لطيفاً معقولًا ويبذل قصارى جهده في الإقناع ،وهكذا كان في يومه الأخير. يدير الحوار مع محدثه عن أمور مثيرة للاهتمام كما كان يفعل في أي يوم آخر.
أعترف بأن سبينوزا أشعرني بالإحباط التام أمام هذا التجاهل للزمن.وبأنني أنتمي للقديس أوغسطين التعيس واحتراقه أمامه.
رغم أن هذا الهدوء الفلسفي لا يمكن تقبله لأي كان بل ولا نفع منه إزاء محن أناس نحبهم.هذا ماقاله برتراند راسل وهو ما فكرت به أثناء قراءة نظرية سبينوزا.نعم اتباع هذا المذهب يجنبنا الوقوع في عالم الأسى يجنبنا حتى الخطيئة بحق ذواتنا بهكذا حياة فانية.نود أن نصدق بهذا ولكننا لا نستطيع ربما في حالات استثنائية،أقول لربما استطاع أحدنا ذلك.
قبل أن أكتب هذه التدوينة التي بقيت أتجاهل إلحاح صوتها بداخلي طوال الأسابيع الماضية،شاركت صديقتي هدى بعض الاقتراحات لعنوانها وهي كانت على معرفة تامة بأهم مجريات الأيام معي خلال العام وكانت كالتالي:
الآمال الكبرى،آمال وصدامات،آمال وعثرات،تصفية حسابات،قرارات حتمية،مصافحة الخوف.
رشحت هي الأول والثالث والأخير.واخترت الأول منها لأنني بالفعل قد بدأت بمصافحة الخوف نهاية العام الماضي وهذا العام تجاوزت المحظور والاعتياد الذي اختنقت منه وقد تعثرت كثيرا في طريقي لهذا التجاوز.لذلك أسميه عام الآمال الكبرى لأنني مازلت أسعى إليها ولنقل تيمناً بمبدأ سبينوزا مع الحاضر.رغم أن الحاضر أسوأ مما قد فات !
فجر اليوم أيقنت أن هذا العام اختتم نهايته مع أكبر عثراته وانتهيت لخسارة عظيمة .قبل أيام سجلت بكتابات خارج النص(عبارات لمشاعر لحظية عابرة أكتبها أثناء القراءة بهامش الصفحة): " أشعر كما لو أنني أمسك نهاية حبل النجاة الذي أعلم مسبقاً بأنه سيفلت مني بأية لحظة"
و مازلت ممسكة به حتى أفشل بصورة أفضل كما قال صمويل بيكيت للبائسين.حقيقة كل هذه الصدامات تذكرني بالخفة التي عناها كونديرا في رواية "كائن لا تحتمل خفته" والتي ظللت أعجز عن فهمها تمام الفهم.وبينما كنت أفكر بالكتابة هنا شرعت بقراءة المذكرات القصيرة التي كنت أدونها من وقت لآخر ووجدت أنني سجلت مفهوماً آخر عن هذه الخفة.وهذه اللحظة أدركت أن غاية الخلاص بالنسبة لي تكمن بهذا المفهوم الذي عنيته وسجلته في السابع من يوليو وسأنقل هنا مقتطفات منه :
كائن تُحتمل خفته
4:13 صباحا
"الخفة مفردة تتعدد مفاهيمها لكل منّا.وبهذا النص تعني ببساطة التخفف من الذات بل والتخلي عنها.التخلي بطريقة عمياء متعمدة،كما الذي يذهب للهاوية مغلق عينيه ومدرك تماماً لخطواته وهذا الشعور الذي أتمنى أن أُقدم عليه بهذا المكان وهذا الزمن تحديداً.أشعر كما لو أنني سأفقد هذه الرغبة مجبرة بالمستقبل القريب وبأنها لن تعود إليّ مرة أخرى ولن تأتيني الشجاعة مطلقًا لفعلها"
"أستنفذ ذاتي لأجل الآخرين...أمضي بذلك بطبيعتي ولا قدرة لي على معاكستها حتى لو أردت ذلك.رغبت كثيراً بالتخفف من الذاكرة ولكنها لا تتركني ،كل ما أرادوا التخلص منه يترك ندباته بداخلي .وحساسيتي المفرطة تضاعف الثقل عليّ"
"أرغب بالتخفف من علاقاتي جميعها ومن تلك الوجوه المألوفة حتى الطيبة منها والتي تؤرقني بطيبتها.قد تتحول هذه الحالة للأسوأ في ركود زمني قاحل.وهذا ما شعرت بأنه ينساب إليّ اليومين الماضية.وقد أدركت وصوله مساء البارحة"
"أتجزأ تحت هذه العاطفة المرهفة والملعونة لكل شيئ من حولي ،وكأنني مثل بيسوا متعددة الكيان،ولكني لا أملك جرأته لخروج أندادي،أتجزأ وأرجو أن أختفي حالاً.لا أريد بأن أُشاهد من قبل أحدهم.يذكرني هذا الشعور برغبة التبلل تحت المطر لوحدي وهذا هو تفسير الخفة بالنسبة لي بأن أكون غير مرئية"
نص آخر في الثامن من نوفمبر الماضي يمثل إدراك الخفة :
التخلي بين الخفة والخذلان
8:10 مساء
"اخترت التخلي كنمط حياة العبث وكوسيلة فعالة لتجنب المعارك التي لا أرغب بخوضها لعدة أسباب أولها بأنها لا تستحق تضييع راحتي عليها.وقد انجرفت معه أوقات عديدة في ضياع لحظاتٍ مهمة،لحظاتٍ لربما غيرت حياتي كليًا للأفضل بأضعاف مضاعفة عن الآن.
ظللت على هذا الحال بالسنوات الماضية حتى واجهت التخلي عني كإنسان ..كان شعور مبهم ببدايته ومن ثم أصبح يضرب وتر ما بداخلي،الألم الذي نتج عن ذلك جعلني لا أميز الوجوه من بعده..وكأنها ضبابية.
البارحة واجهت التخلي مرة ثانية ورغم أنه أتاني من آخر عبثي إلا أنه أشعرني بالخذلان من نفسي وهذا الشعور من أشد المشاعر عليّ وأكثرها مقتاً.مع مرور الزمن الوجوه تصبح معتمة والشعور ناحية أصحابها يذبل ويمّحي وكله يشعرني بخفة غريبة.
خفة تتحول مراتٍ عديدة لذبول عارم يطغى على الوجود بأكمله ومراتٍ أخرى تجعلني أتجاوز صدامات لم أفكر يوما بقدرتي على تقبلها وخوضها. أظن أن هذا هو ذات الشعور لمن ليس لديه شيء ليخسره."
لا أدري أين ذهبت تلك الآمال في ضجة العبث أم في تمني الخفة وتناقضاتها،الذي أيقنته من هذا العام ومن خلال واقع المقربون مني أن ضياع تلك الآمال كان دائماً لأجل الحب ،نعم الحب! ويا للأسى جميعنا نعلم أن من تركناها لأجلهم هم من لا نستطيع أبدًا التخلي عنهم .فليس منا أحد قادر على ترك عائلته.العائلة تلك الرابطة المقدسة تأبى عن الخنوع لأي سبب وبأي زمن.
وأخيرًا أعتقد أنني وجدت علاقة بين مبدأ سبينوزا والخفة التي ذكرتها.فسبينوزا يظن أن محن المرئ مجرد خلافات عابرة تزيد تناغم العالم في النهاية.وهو في اعتقاده هذا لا يختلف عنها،غير أن هذا سهل جدًا بالنسبة إليه مقارنة بآخر لا يعتقد الخير بهذا العالم،"فكل فعل من أفعال القسوة هو دائماً جزء من هذا العالم."
وأيًا كان:
"حين يكون نصيبك أن تتحمل شيئا أسوأ من النصيب العادي للجنس البشري (أو يبدو لك كذلك) ،فمبدأ سبينوزا في التفكير في الكل،أو على أي حال في التفكير في أمور أوسع من بليتك، هو مبدأ نافع.بل إن هنالك أوقاتاً يكون من المريح فيها أن نتأمل في كون الحياة الإنسانية،بكل ما تشمل عليه من شر و معاناة،هي جزء لا متناهٍ من حياة العالم.فمثل هذه التأملات قد لا تكفي لتكوين دين،ولكن في عالم مؤلم،هي عون نحو السلامة العقلية،وهي ترياق من شلل يأس مطبق" |برتراند راسل
الآمال التي ظن سبينوزا أنها عبودية وهو في ذلك محق،وجدت أنها السبيل الوحيد لمقاومة العبث الذي قد يفقدنا هويتنا.فمعها استطعت مصافحة الخوف ومعها خُذلت بمن أحببت وبما كنت أستميتُ للحفاظ عليه.معها شعرت ولأول مرة بحياتي كلها بمعنى الكفاح وتجاوز المحظور في مجتمع يعبد العادات ويحتله الجهل.
وفي اعتقادي أنها تمثل جزء من روح الإنسان وهي ضرورة توازن انفعالات عواطفه اتجاه نفسه واتجاه خالقه.
30/12/2021
11:11 pm
تعليقات
إرسال تعليق