كتبتها ذات مرة العودة للكتابة بعد انقطاع طويل من أشقى الأمور التي قد يقدم عليها المرء.ومن أكثرها تعاسة حينما ينظر لنهايتها.آخر مرة فعلتها بليلة رأس السنة 2021،طوال أشهر كنت أزحف تحت ثقل جملة واحدة: عليّ أن أكتب. تجاهلت أنني محاصرة ما بين الذاكرة والعدم وكتبت سلسلة (ثريد) مبعثرة حتى أتخلص من هذا الثقل.وقبل أسبوعين وقعت فجأة بين يدي وأنا أبحث عن كلمة بحسابي ،تملكتني حسرة وأسى على ما فعلته بتلك الذاكرة كله بسبب العدم وحده.حتى اللحظة أكتب هذه التدوينة تحت وطأة العدم.أجبر نفسي على التمسك بمحاربة الزمن بهذا الأمر وأفكر أن أجدد هذه الذاكرة كل عام في الثاني من ابريل يوم ميلادي.حتى اللحظة أقاوم وأطرق أصابع يدي اليسرى الأربعة على الطاولة حينما أعجز عن استمرار الكتابة.
تدوينة ابريل الماضي كانت هكذا بالضبط.أذكر أنني بعدما نشرتها علّق صديق عليها "يبدو أنك نشرتها بلا مراجعة".ومرة علّق على أخرى كتبتها قبل حوالي 6 أعوام "كالعادة مشتتة". ظلّت هذه الجملة تتردد برأسي لأيام عديدة.و ما زالت تعاودني بكل مرة أنظر لنهاية الورقة.نعم إنه تيار الوعي الذي يأبى أن يتركني.
إذن ما الذي حدث ما بين ابريل الماضي والحاضر؟ ما الذي يستحق أن يُكتب؟
لنبدأ مع أفضل ما مررت به أثناء كتابتي لتلك الذاكرة العام الماضي،وقتها كنت أقرأ سباعية مارسيل بروست.أعتقد كنت بالكتاب الرابع انقطعت عن القراءة ثم عدت و أنهيتها بيوليو،وبدأت أحاول تلخيص مراجعة عنها طوال أغسطس وأنا بتلك الحالة نفسها من العبث منذ ابريل.أذكر أن الربيع بأوله وأكملت القراءة حتى بدأ الصيف.كانت أشهر ممطرة دافئة وكنت بحالة طمأنينة ورضا رَحْب.وكانت تزورني نوبات قلق على صحة والدي ولكني لم أشعر أن الريح تحتي حتى خرّ أبي من المرض.وتوالت الأشهر الطوال وأنا شبه فاقدة للوعي وللمحيط .خلالها علمت أنه يعاني من مرض السرطان ومن الدرجة الرابعة منه.أجرى عملية صعبة (13 ساعة) ثم انتكست صحته بعد عدة أيام من العملية،مكث خلالها بالمستشفى أربعة أشهر كأنها الدهر،زرته فيها مرة واحدة فقط.أدركت خلال تلك الزيارة أن بداخلي أناة أخرى،أناة تقول اليوم أن: "الألم ثمرة،والله لا يضع ثمارًا على غصن ضعيف لا يقدر على حملها"
وكل ما رحل بقية العام حتى اللحظة لا يقارن ولا يذكر أبدًا أمام تلك الأشهر الأربعة .وما بعدها ليس سوى "تزجية للوقت ما أثقلها"
قال ريكله: " لا يصيب أي مخلوق أبدًا إلا الحمل الذي يناسب قواه" وهذا الحمل الذي مر ألخصه بمذكرات قصيرة كنت أدونها من فترة لأخرى خلال تلك الأشهر وحتى وقت قريب.أشاركها بعد أن وصلتني تدوينة لإحدى الرفيقات هنا،كانت تمر بفترة شبيهة بما أمر به وقبلها بأشهر وصلتني رسالة من شخص غريب يشكو فيها من هذا الثقل والعبث الملازم له .أظن أن هناك كثر مثلنا وقلتها لهما .ننشرها لعلّ هؤلاء يقرؤوها ويعلموا أن هذه طبيعة الحياة ،لا تعاش بلا معاناة وصبر واعتياد.ومن هذا كله يظهر الجمال ويتجلى بروح الإنسان.
30/6/2020:
مرّ شهر كامل على آخر مرة فتحت فيها صفحة وبدأت بالكتابة،شهر ثقيل جدًا موحش جدًا كئيب جدًا وحزين جدًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وألم.وهذه اللحظة ومنذ عدة أيام يغلق راحتي ذبول عارم ذبول يكاد يطفو بنفسي وجسدي لأبعد حدود اليأس عن الحياة والناس وكل بهجة .وهاهي جملة تتجلى بوضوح،جملة ترقرق بداخلي منذ مدة طويلة مضت: لم يبقَ مني ما يبتزه الأملُ.
قالها الجواهري بعد أن أوسعه الألم والفقد ضرباً مبرحاً.وأقولها بعد أن أوسعني الخذلان والخيبة ضرباتٍ عديدة.أزحف تحت وطأة الكآبة لأمسك الهاتف وأكتب هذا النص.منذ أسبوعين لا رغبة لي بفتح حديث مع أحدهم ولا رغبة لي بسماع أحدهم لي رغبة واحدة فقط،لرؤية أبي وسماع صوته و لا قدرة لي على محادثته فقد ارتحل للعلاج وخلفني ورائه شبه فاقدة للمحيط ومجرياته.ما زالت وقفته الجليلة وهيبة العزم وخشوع المؤمن بصوته قبل السفر-وهو يوصيني أن أنتبه للأمور بالمنزل-وقفة تمسكني عن السقوط.بودي لو أبكي كما يبكي الطفل بصوت مسموع.كل ليلة بوقت السحر أنتحب بصمت،أكاد أختنق بعبراتي الذليلة وترفعني رحمة إلهية عن الغرق بالدموع.رحمة متصلة باشمئزاز للضعف وتبعاته.وما إن تنقضي ليلتين حتى أجدني أجدد الولاء للنحيب المخنوق.لكن هذه الليلة لا قدرة لي على ذلك.لا قدرة لي سوى سفح الدمع منذ البارحة.ومع كثرة الضجة يتجاسر بداخلي لا مبالاة عمياء تكبر وتكبر وتخضعني لسلطانها وأستجيب بوداعة وصمت،طلبًا لهدأة النفس وسرّها،طلبًا للاختفاء من الوجود وغمرته.وعندما يدنو الأصيل يضج بداخلي صوت الطبيعة فأنتحي عن المحيط بحثاً للسكينة في حفيف الشجر وجريان النسيم ومناجاة الطيور كما هي العادة.ويا للأسى حتى بهذا الصوت لم أجد مرادي .
أخشى أن يطول هذا الحال،وأجدني بلا حول ولا قوة لمفارقته. ساعدني يا من يحول بين المرء وقلبه.
5/7/2020:
عادت أغصان شجرة المورينقا للحياة بعد غياب عدة أشهر،آخر مرة نظرت إليها يوم سفر والدي كان صباحاً مشرقاً شارفت الساعة 7:30 الجو يميل للحرارة نهار 23 يونيو الماضي.هذه الليلة مشيت بالخارج بعد اعتكاف ليال عديدة على نفسي المستوحشة.وبعد أن خنقني ضيق غريب أخذت الجلوس على درجات الباب الخلفي،فإذا بناظري يقف على أغصان المورينقا وليدة الأيام الثقيلة ..يوم سفر أبي وقفت أمامها كانت عصيّ جرداء..لا حياة فيها.ذبلت وذبل الزمن بداخلي معها.وعدت بالذاكرة للأيام الماضية .كان والدي يقول ربما أنها تذبل في موسم وتعود في آخر.يومها كان يريد فتح حديث معي وأنا على عجلة تحدثت وتركته..أي أسى أعظم من الندم؟
لا شيء أعظم منه.
هذه الليلة تذكرت الأمير "آندريه " بالحرب والسلم تلك اللحظة شعرت بما شعر.وهو واقف أمام الشجرة .أقول لربما كان كذلك!وقلت لنفسي هل من أمل ؟أما ما زال؟ النسيم الآن يدغدغ ألمي وصدى أصوات الأطفال بالمحيط يجذبني للعودة،ولكن خوفي أعظم وسقم نفسي لا ينوي الرحيل.أعتصم برجاء من لا حول له و لا قوة إلا به.وأستشعره بكل نفس وغفلة أن يمسكني وينقذني من هذا الشؤم الخفيّ.وهذا الغمّ ملتصق ولا يأنف عن الرضوخ لأي كان.
6/7/2020:
قلق يترصد كل ابتسامة شاردة بوجهي.
7/7/2020:
في لحظات الانتظار تتجزأ حياتنا تحت ثقل العجز ولا شدة أقسى منه.العجز عن إمساك أوجاع من نحبهم،العجز عن جلو حزنهم وكف الأذى عنهم.لحظات عجز تتقاذفك الذاكرة معها ما بين اليأس والرجاء ولا حيلة لنا غيرالاستمرار بالانتظار .
تجاوز الزمن ثمان ساعات ولم يصلنا خبر عن خروج والدي من غرفة العمليات.يا إلهي الطف بحاله.
31/7/2020:
أول عيد وأنت لست بيننا والدي العزيز.أفتقدك كثيراً.افتقاد مختلف عن باقي الأعياد التي تكون فيها برحاب الرحمن.كنت أستودعك الكريم وأنا مبتهجة وأنت من حجاج بيت الله .اليوم ما زلت بالمستشفى وبعيد جدًا لم نستطع سماع صوتك.ومع ذلك اعتدت أن أتحدث إليك يوم بعد آخر وكأنك بيننا.أعلم بأنك تسمعني وتقرأ رسائلي و لا قدرة لك على الرد.أعلم بأنك مطمئن علينا وهذا وحده كافٍ لأجلك لتسكن نفسك وليخف قلقك ولهفتك علينا.صوتك لا يفارقني رعاك الله يا قرة عيني ونور فؤادي.
عسى أن يكون هذا آخر عيد لست بيننا فيه.وعسى أن نعيش سوية أعياد كثيرة العدد لعمر مديد بهيج.
21/9/2020:
عاد مهجة نفسي وقرة عيني..عاد أبي.والدي العزيز نائم بالغرفة المجاورة .أشعر بروحي كطائر عاد لعشه بعد ليلة عاصفة وكقارب رسى بعد سفر طويل.ثلاثة أشهر وكأنها بضع سنوات.الأنا التي كنتها لا أستطيع التعرف عليها.ولا قدرة لي على البحث عنها.ووالدي ليس كما هو ولكنه سيعود حتماً سيعود وأنا سأعود معه.
احرسه بعينك التي لا تنام ،واكفه بركنك الذي لا يرام.واحفظه بعزك الذي لا يضام واكلأه في الليل وفي النهار.. يا إلعي خذ بيده أنت ثقته ورجائه يا الله.
26/9/2020:
يوليو الماضي بدأت أغصان المورينقا الصغيرة بالنمو بعد أن ذبلت عدة أشهر وصارت عصيّ جرداء.كتبت يومها ذكرى مضت برفقة والدي.وقد كنت يومها في شوق شديد لرؤيته وألم مضاعف على حاله.وهذه اللحظة تزهو المورينقا أمامي برفق يهدهدها نسيم دافئ،وبأوراق يميل بعضها للون الأصفر.و أبي يجلس بجانبي بوقاره المعتاد أبي الذي أضناه المرض ولم نكد نتعرف عليه.ما زلنا في خوف وقلق ولكننا تجاوزنا الأشهر الثقيلة ولله الحمد تجاوزناها بكل ما حملت.
الأسبوع المقبل تبدأ المرحلة الثانية بالعلاج.وستستمر لأكثر من شهرين أملي ورجائي بالواحد الأحد أن يعين أبي ليستطيع تقبل العلاج.وأن يبدأه وينتهي منه بلا تعب يُذكر.وبأن نعود لديارنا بسلام وفرح مضاعف لشفاءه ولرؤيته بيننا بلا خوف وقلق.ولنشاهد سوية ونتحدث عن مواسم نمو المورينقا وعودتها للحياة.
مؤمنة بأن هذا ما سنصير إليه والدي وحبيبي تنتظرنا أيام طويلة لنعيشها بكل ما تجيء به.قلت لك من قبل أن البشر كما الأشجار..تذبل وتعود للحياة من جديد.
13/10/2020:
أين أنت والدي ؟!
الذي بجانبي شخص آخر.أفتقد صوته حضوره نظرته وحتى صمته.الذي ينظر لي ليس أنت.هذه النظرة تعذبني .يا إلهي أعده لنا مثلما كان إلهي ورجائي اشفه أنت ثقته ورجائه إلهي شفاء لا سقم بعده أبدًا.
إلهي لا خوف ولا حزن ولا ضعف يلمسه.اكفه يا كافي من كل ألم وهم و وجل.
15/10/2020:
انسياق للصمت
كنت أظن أني بابتعادي عن العائلة والعمل وكذلك مواقع التواصل والحديث مع المقربون وحتى بانقطاع اتصالي بهم.سأجد وقت ورغبة بالكتابة وسأجد مادة وجدانية زاخرة بالصدق والعاطفة و لا سيما بأني أعيش هذه الحالة.حالة التضاربات ما بين اليأس والرجاء ما بين الألم و الأمل .الخوف والإيمان ،وقوة البأس التي تشرق وتغرب بين حين وحين وقد تمسكني بلحظة لا أتعرف نفسي فيها وأتعجب من هذه الأنا الجبارة التي تخرج فجأة وتتجسد فيّ.وأرجو أن تظل هكذا لا تفارقني.
أحتاج الكتابة أكثر من أي وقت آخر،ولكني لا أستطيع التحرك.بداخلي ركود زمني شديد الوضوح.يؤجل هذا الفعل لفترة محددة.،فترة أعلم ما هي و لماذا اختارها.
تخنقني الخيبات من نفسي وانسياقي لهذا الصمت ولكن اختناق أخف من الأيام العادية بحياتي عامة.بي رضا وبي خوف يترصد فكري بالمضي وتجاهل الزمن.خوف مما سأنتهي إليه من هذا الصمت خوف من المسّ البارتلبي.خوف يغلبه يقين بأن ما اختلج بنفسي سيخرج بلحظة ما وسيولد مثلما أردته وتلك هي ثمرة أوجاعي عزيزي ريلكه.
22/10/2020:
خذلان الكتابة
لا مفردة ولا جملة أي كانت قادرة على وصف ما مررت به بالأسابيع الماضية و ما زلت أمر به حتى اللحظة.منذ بدأ والدي بالعلاج الكيماوي و الإشعاعي وأنا أحد آخر لا أتعرفه .أذوب من الداخل و لا عزاء بإمكانه أن يمسكني عن هذا الألم ،أما الظاهر وهذا الجانب الذي لم أتعرفه بي وأحمد الله جلّ جلاله وعظمت مشيئته بأن جعلني بهذا الصبر وهذا الصمت وهذا التجاهل العظيم لما أحسه من لواعج عصيبة.تجاهل لدرجة أنسى فيها نفسي ومن وماذا تريد؟!
واستني الوحدة بقرب الإيمان وانتظار فرج آتٍ بحول الله وقوته.واساني الصبر بأني سأكبر من هذا الألم وسأصبح قادرة على مواجهة وعيش ما يحمله الغيب لي.لأن ضعف والدي الذي يقتلني ألف مرة و هو لا يستطيع أن يحمل حتى كوب ورقي! هذا الضعف الذي لم أعتاده ولم أتصور أن يصيب أبي الجليل ،آلمني أشد ألم آلمني أضعاف ما عشته و ما رأيته من آلام من هم حولي طوال حياتي كلها ولو كان لي حياة ثانية لن يصل لربع ما شعرت به بالحياتين من ألم وانكسار .لن يصل أبدا.
أتمسك بهذا الصبر وأنتظر .أنظر لأبي بكل لحظة وأنتظر .بدأب جميل أعتني بأكله وصحته وبالحديث عن العلاج وتبعاته وبأنها فترة وستمضي،عن ذكريات ماضية للعائلة ما بين ضحك وحنين.أنتظر وأكفكف الدمع بالخفاء لعلّ خوفي يجف معه.ولعلّ ضعفي ينحني أمام صبري الجميل.
25/10/2020:
شعر أبي يتساقط.أجده بكل مكان يتواجد فيه .بالصالون بفراشه،بالحمام،وحتى بملابسه.لاحظته منذ أيام أما أبي لاحظه البارحة،تساقط جزء كبير من لحيته.قبلها بيوم كان يُحدث أمي عن ذلك،وهي تقول منذ مدة احلقها وشعر رأسك كله .ولكنه رفض بقوله أنها ستسقط أثناء فترة العلاج.لا أعلم لماذا تأثرنا رغم أننا على دراية بالأمر منذ شهرين تقريباً ربما أكثر.
اعتدت رؤية والدي الملتحي.بالأعوام الماضية كان الجميع معجب بوسامته حتى بعد أن غزاها الشيب،وهو يفضلها أعلم ذلك.لدرجة رفض العملية سابقاً بسبب اقتراح الطبيب بأن يزيلها .لشد ما تألمنا وقتها ولكن الطبيب رعاه الله قدّر ذلك وانساق لرغبة أبي.بعد العملية قال أخي بأن والدنا لحظة أفاق مباشرة رفع يده ليتفقد لحيته ولما وجدها مثلما كانت اطمئن.ولكن الأيام الثقيلة كانت مقبلة.الأيام التي غيرت والدي وغيرتنا كلنا.ولما ازداد الألم عليه طلب بأن يحلقوها له.لا أنسى تلك اللحظة ،لحظة وصلتنا صورته بدونها.تلك الأيام الطاحنة غيرت كل شيء .شكل أبي صوته نظرته وحتى تصرفاته.
آخر مرة رأيت فيها أبي بلا لحية عندما كنت بالمرحلة الإعدادية ،ابتسامة والدي آسرة.كنت أفخر به وبطوله عندما أمشي بجانبه ولحظة يبتسم فيها سواء كان يرتدي النظارة الشمسية أم لا كنا جميعا نعجب بها.ما زال الجميع يفضلون أبي الملتحي .أما أنا فقد أصبحت أفضل والدي المبتسم بغمازتيه الظاهرة .وقد التقطت بعض صوره القديمة من ألبوم العائلة.وحتى أنني وضعتها خلفية لشاشة هاتفي ،أنا التي أنتقد وضع الصور الشخصية بخلفيات الأجهزة! ويوم نزل والدي من السفر بعد طول غياب اخترت نفس الصورة على قالب التارت.يومها وقف والدي بيننا ولم أتعرفه.نحل كثيراً عظامه بارزة بشكل مؤلم .وخطوته ثقيلة وكأن قدميه اسمنتية.خطوته ذكرتني بوصف لمارسيل بروست في نهاية السباعية: "الزمن المستعاد" كان يلاحظ فيها خطوات المسنين ممن عرفهم بحياته وكيف صُدم من هذه الرؤية.ومثله صُدمت.
رغم أنني سبق وزرته قبل نزوله بشهر.بتلك الزيارة ولدت الأنا الجبارة بداخلي وما زالت هنا.والبارحة كانت هي من تتحدث بهدوء معه بعد أن سقط شعر لحيته.وأرجو أن تظل معي لا تفارقني.
30/10/2020:
أين الطريق بل أين أنا؟
19/11/2020:
العودة
يوم السابع عشر من الشهر الجاري كانت الجلسة 33 والأخيرة من مرحلة العلاج الإشعاعي والكيماوي .لم ينتظر والدي ومثله نحن جميعنا نتوق لفراق هذا المكان.بنفس اليوم غادرنا للديار ووصلنا قبل انتصاف الليل بدقائق.الحمدلله والدي وحبيبي تجاوزنا الأيام الشديدة تجاوزناها بحول الله وقوته.بقدرته ومشيئته عدنا وبها ستعود العافية إليك يا رب.
ستعود الحياة التي اعتدناها وسنعود نحن.والقلق بدوره سيرحل.سيتلاشى ببطء شديد أعلم ذلك.المهم أنه بدأ ليشد الرّحال بعيدًا عنا.وليلحق به الخوف بعدها.وسأثمن كل ثانية لفعل ما أردت فعله و ما أدركت أهميته بمحاربة الزمن .سأعوض ما أتلفه جهلي وغفلتي وما لم أعشه مع عائلتي وكل عزيز عليّ.سأعيشه بكل ما يحمله لي بحب وود وصبر وبآلام وضعف.سأعيشه كما يجدر بهكذا حياة قصيرة وفانية.
أرجو أن لا أنسى ذلك مهما عصفت بي الأقدار.
28/11/2020:
هدنة الأيام الطيبة
بالوقت الذي أستعيد به أنفاسي أكون بخير.اليوم تقريباً معظم النهار لي وحدي استطعت ترتيب جدول الدراسة والعمل، ظلّت القراءة مهملة للأسف منذ شهرين.
عدت للتصوير مجدداً و إن كانت الهواية الوحيدة التي لم أتركها بالفترة الماضية .حيث أنها بطريقة ما تساعدني على التكيف بالحاضر .كما أنها قادرة على طرد بعض القيود والذكريات الموجعة.البارحة شاركت صورة مع عائلتي.نشروها وحازت إعجاب كثير من معارفهم.شعرت بالإطراء فعلاً وللحظة فكرت بأني بحاجة لتطوير مهاراتي .ربما بعد مارس المقبل أنتسب لجهة ما.
الزمن عاد للسيلان.أعلم بأن هذا ما يحدث كل مرة أجد نفسي بحاجة للتفكر بكل شيء.عليّ ان أنتهز الفرص وركل كل ما يؤرقني بكعب قدمي للوراء مع نهاية 2020.
3/12/2020
الزمن مع الأيام السيئة:
جميعنا نقول أن الأيام الجميلة كذلك الأوقات المحببة تمر سريعًا مقارنة بتلك السيئة.هل الزمن يتغير وفقًا لذلك؟
أعني يطيل السيئة ويستعجل الثانية؟
الزمن هو نفسه مع اليوم السيء ونقيضه.نحن لا نشعر بمروره مع الأخير منهما لأننا مخدرين بالرغبة .
والعكس مع اللحظات باليوم الصعب ،فالساعة فيه كما اليوم بطوله.لأننا نريد اقتلاعه من الوجود أو الهرب منه .ولكل منا طريقة بالتعايش معه.ولكن ماذا عمن يعيش أشهرًا بل سنوات من السوء والشقاء..رحماك ربي.
لقد مررت هذا العام بأشهر عصيبة وما زلت على أطراف الرحيل.رحيل من الأراضي الثقيلة ..ظللت أعرج فيها بلا حول ولا قوة بروح مقيدة بالعجز والصبر والمصابرة.وكلما أوشكت على مغادرتها أشعر أنني قضيت أعوام كثيرة العدد.أفكر بالضعف كثيرًا وكيف أنه شديد الانقضاض على الإنسان لحظة يتملكه الخوف.
كل إنسان لا بد أن يعيش هذا الحال كائنًا من كان .
عندما تراه ينقض على عزيز عليك،عزيز تتربع مكانته بفؤادك.ولا قدرة لك على طرد ضعفه وخوفه.تستسلم للألم وينهال
الوجع مع الذاكرة بكل لحظة تجد نفسك بحاجة للهرب من هذه المعاناة.
لم تمر سوى أربعة أيام شعرت فيها بالراحة وبرغبة ملحة للتخفف من ثقل الأشهر الست الماضية.عاد الخوف والقلق مع شتات الأمر وضيق الصدر.
العمل والدراسة والأصدقاء.القراءة افتقدت القراءة .أفكر بالعودة لتويتر.وأرغب بقضاء أيام عديدة بهدوء مفعم بالحيوية،وقد
أقضيها مع نفسي فقط.لأعلم ما الذي أريد فعله وكيف ومتى سأمضي إليه.
معظم النهار وقتي ليس ملكي.ما بين العمل والبيت والدراسة التزامات عديدة ومتعبة.لا أجد الوقت إلا بالمساء وهذا وقت
العائلة ولا أريد تفويته لأجلهم.عندما يقارب انتصاف الليل أشعر باختناق ضجة اليوم وكأنها تتوسط حلقي ورأسي..ولحظة أقفل باب غرفتي أتنفس نفس دافئ وعميق.وأقول هيا لألتقي بالأنا وأطمئن.وأصافح الأرق برضا تام .
الأربعة الأيام هذه توقفت فيها عن المبيت بالقرب من والدي حتى أسمعه إن احتاج لشيء وأطمئن عليه.
وقد شعرت بالضيق من بعد.خفت أن يفهم والدي بأنني تعبت من المكوث بالقرب منه.كنت أريده أن يعلم ويشعر بأن صحته
تتحسن وبأنناجميعاً نردد ذلك.ونصدقه.كما أن جزء كبير مني كان بحاجة للتحرر.إنكاري لذلك جعلني أشعر بتأنيب مضاعف.
ولكنني أعرف نفسي جيدًا،إذا ما التقيت بذاتي وفهمتها وتلاشى القلق،لن أستطيع التخفف ومن ثم لن أستطيع مساعدة غيري ولا مجالسته حتى.
الأيام السيئة علمتني إدراك الزمن،وعلمتني معايشته وانتهازه ،علمتني وجعلتني كما الجواهري :
إن الليالي حاوَلَت ضَرعَي
فوجدْنَني مُتعسَّرَ الحَلَب
بالصمت والأناة تجاوزت الثقل ومازلت بمحاولة لأستطيع التحرك معها.لنرى كيف سينتهي ذلك.
13/12/2020
هاجس الألم
مؤخرًا أصبحت بلا أي شعور.عرفت نفسي طفلة مفرطة الشعور والملاحظة للكائنات وغيرها بالوجود.واستمر الحال هكذا
حتى استهلكتُ روحي بهذا العام من مشاعرها كافة.أظن أنني صرتُ أفهم نوعا ما،ما عناه الجواهري بشطره: "لم يبقَ عندي ما يبتزه الألمُ."
استُنزف ألمي كله على مرض والدي وضعفه الذي لا أستطيع تقبله حتى اللحظة.الألم الذي عاد القلق معه ليلة البارحة باقتراب موعدالطبيب.كنت كمن تخدر شعورها وجمد بمحجريها حرّ الدمع .كلما حدثني أحد من أهلي عن أمرُ يؤلمه ويخافه ويرغب بأن أتفهمه أقول له مابعد مرض أبي شيء يؤلمني.ولا يهمني ما يؤول إليه الأمر.
قبل ساعات لم أستطع إكمال قراءة مشهد قتال جندي بميدان الحرب وأقفلت الكتاب على عجل.
وقبله بأيام لم أكمل مشاهدة مسلسل عن الحب والوطن.لذات السبب
يخنقني ضيق وقرف.بل جهد لا أقوى على حمله .
ولا أعلم لماذا أتذكر ما قاله تولستوي لريلكه ونطقه باقتضاب: "أُكتب."
أشعر بالخوف والجهد الذي عناه ريلكه بسؤاله وفهمه تولستوي.
كأنني مكلّفة بحمل ما لا أطيقه وهو ذاته ما لا أنأى عنه.
هاجس الألم يذكرني بما استنزف مني هذا العام.ولم أستطع انتزاعه من داخلي لم أقوى على الكتابة.
لأنني لابد أن أخوض بالذاكرة والروح معًا للعودة هناك.
ولا طاقة لي على العودة أبدًا.أنغمس بالضجة من حولي وأنساب للضحك والرغبة لتذكر الحياة العادية وعيشها.
أصادق القائل بأن لا نجاة من خوف إلا بمواجهته.ولكن لا أريد المواجهة الآن.أحتفظ بالجهد النابض كقلب طفل رضيع نائم.
بهذا الجهد الهش لأجل أن أتجاوز هذا الضعف المضني.ولأجل التمسك بأمر ما أرجو نجاحه بالمستقبل القريب،
أمرٌ لطالما انتظرته ببضعة أعوام مضت.ولم أجدله أي وسيلة حتى أبصرت الطريق الذي خاب أملي من وجوده.
وها هو يقف فاتحاً ذراعيه على اتساعهما وبذات التحدي الذي لكزني به شبح الزمن لحظة قابلته بخيالي قبل أعوام:
هل أنتِ قادرة على المضي؟
أرد عليه أنا كذلك انتظر لترى. ولهذا لا قدرة لي على صد أي ألم ينوي الاقتراب.ولا أرغب بالشعور أي كان.
سمه هدنة أم جُبن أو تفاهة سمه ما شئت.لن أنتوي عنه.
لأنني من هذا الطريق سأكرس حياتي لجواب تولستوي كما فعل ريلكه.
6/2/2021:
عودة هاجس القلق.
18/3/2021:
فقدت نفسي..في ضجة المحيط والتزاماتي .وأكثر ما كنت أخافه حدث.
كنت أردد بداخلي لا بد أن أنتبه من الآخرين ومن المقربون تحديدًا.إذا أعطيتهم جهدي وقتي وكل فكري سأضيع.
حساسيتي المفرطة اتجاه آلامهم وشكواهم ارتدت عليّ أضعاف مضاعفة.منذ مدة طويلة تشوه داخلي ورويدًا رويدًا يخرج مني وحش لا يطيق أي شيء ولا يحتمل رؤية الناس ومخالطتهم.كنت أذكر نفسي دائمًا انتبهي من هذا الزحام.أنتِ كتومة ،
الرّقة تشوهك ومع الزمن سيولد الأسوأ .
أتذكر هذه اللحظة قصة فيرجينيا وولف "موت فراشة العث"
تلك الرّقة ذاتها التي رصدتها وولف وشعرت بها، تغتالني ببطء.وكما حدث مع جملة ميلينا التي شغلت فكر كافكا بلحظة ما
"ارتد كل شيءعليّ" ولا نجاة إلا بالعزلة.
2/4/2021:
استيقظت من حلم غريب،كنت تقريبًا أحلّق بالسماء وبشعور دهشة وسعادة الأطفال مطمئنة وحرة.المكان كان ببيت عشت فيه مرحلة ما من طفولتي ولكن فجأة أخذت قنابل ضخمة تتساقط من السماء بأطراف المكان ومن حولي ولم أتزحزح من مكاني رغم خوفي وعمّ ضجيج الآخرين "الحرب بدأت "ولم أتحرك.ولم أصب بأذى .كنت متمسكة بذلك الفرح ولا أرغب بتركه أي كانت النتيجة.ربما هذا المنام يفسر ما أنا مقبلة عليه من تحديات المحيط.أرجو أن أظل بتلك القوة التي كنتها بالمنام.وأن أتمسك برغبتي لا غير.
لمن يقرأ وهو يصارع أم يتجاهل ..يأس كان أم عدم.تذكر قوله تعالى:
"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها"
تعليقات
إرسال تعليق