التخطي إلى المحتوى الرئيسي

البحث عن الزمن المفقود(7)-مارسيل بروست

الكتاب السابعالزمن المستعاد




هذا الكتاب بالنسبة لي هو الذي كشف الراوي العليم وقد كان بمعظمه كسيرة ذاتية لبروست.ولا سيما بالصفحات الأربعين الأخيرة.


نهاية رحلة المليونين ونصف المليون كلمة:

كثيراً ما نسمع بأن رغبة الأموات أو أمنيتهم الأخيرة أن يموتوا ويدفنوا وقبلها بأن يعيشوا أيامهم الأخيرة بمكان طفولتهم الذي نشأوا وولدوافيه.








يعود الراوي في الزمن المستعاد لكومبريه بالريف.وهو المكان الذي بدأ منه رحلة سباعيته بالكتاب الأول "جانب منازل سوانوالذي نشرهبروست بعد مطاردة بائسة لدور النشر.أولها دار "غاليمارالتي كان "أندريه جيدمن ضمن مؤسسيها،وقد رفضها بقوله: "لا مكان لروايةبروست عند غاليمار"


وقد توالت رسائل الرفض من عدة جهات كدار نشر "فاسكالالتي أرفقت الرفض بنقد لاذع.ثم دار "ألندروفالتي قال مديرهاألفريدهاملو: " ربما أكون معتوهاً لكني لا أفهم كيف يمكن أن يخصص شخص ما ثلاثين صفحة ليشرح لنا فيها كيف يتقلب في سريره قبل أنيستسلم للنوم

يا للأسى .كقارئة هذه الميزة التي انتقده ألفريد عليها كانت أكثر سبب دعاني لقراءة العمل.لأننا كبشر وكطبيعة لحياتنا الضاجة لا نجد وقتًامثل ذلك الوقت الذي ننتظر فيه استسلامنا للنوم.حتى نفكر بيومنا ومحيطنا ومالنا وما علينا،غايتنا والوجود ككل.وأين نحن بين كل هذا.


ذُكر أن الرفض توالى من ستة جهات.ولكن بروست بالأخير لم يرضخ لليأس ونشرها على نفقته الخاصة.بعد رفض توالى من الصحف أيضًا.

وبعدما نشرت، ولاقت نجاح كاسح،أدركت دور النشر خطأها،على رأسهم "أندريه جيدالذي أرفق اعتذراً طويلاً برسالة أدبية قيل أنمسودتها بيعت بأكثر من 145 مليون يورو.


نعود للزمن المستعاد هذا الكتاب،أعتبره الرابط الأشمل للرواية.حيث تجسد فيه عبقرية بروست.وإن كان يحمل عثرات صغيرة لم يستطعالكاتب تصحيحها.لأن الأجل وافاه قبل مراجعتها.ويلحظ القارئ ذلك بالربع الأخير من العمل.وبالثلاث الأرباع الأولى يكتب وهو على فراشالمرض متجاوزًا بصمت حضور والدته الذي كان بنهاية الكتاب السادس وخاصة بالفصلين الأخيرة.

يكتب الراوي عن حياته مع المرض وتغير المحيط من حوله.كما هي طبيعة الحياة والبشر.وهذا التغير يبدأ من شخصيات مهمة بالرواية مثلسان لو وجيلبيرت ،دوشارلوس ودو غيرمانتوشخصيات أخرى ظهرت خلال العمل واستمرت بالظهور.


يخرج بروست الذي انكشف للقارئ في حديثه عن مرضه والمصحة والتاريخ في 1916 وحياته بباريس وخارجها أثناء الحرب العالميةالأولى.واستمر بمتابعة الأخبار برسائل مع صديقه "سان لوالذي فقد حياته بالحرب.ومع زوجة صديقه.وصديقته هو بأيام الصبا "جيلبيرت" .التي تزوجت بسان لو بنهاية الكتاب السادس.وقد تلقى الراوي خبر زواجهما برسالة أثناء خروجه من البندقية بالقطار وبرفقة أمه.


ومع مثلية المسن "دو شارلوسالتي خرجت للعلن في ماخور جوبيان أيام الحرب.وهذه حادثة قيل أن بروست نفسه شهد فيها سادية لرجلورفيقه.ومنها استلهم مشهد البارون ورفاقه.


الحادثة الأهم بالنسبة للراوي خلال الحرب بعد مرضه وغرابة المجتمع الأرستقراطي وأزياءه.كان موت صديقه "سان لو" (الطائر الأشقرلطالما شبهه بالطائر.ويتضح إعجابه الشديد بشخصية صديقه.رغم الألم الذي سببه هذا الأخير بينهما من ابتعاده عنه وإخباره بزواجه منجيلبيرت بوقت متأخر.ثم مثليته التي قاومها حسب ما اعتقد الراوي ،ومن ثم استسلامه لها مع "موريلعازف الكمان وقبله مع صبي المصعدفي بالبيك،في تعارفهما الأول.


رغم ذلك رثاه بسرد بليغ يليق بصاحب مخلص:

"لقد أعطى الغالي والرخيص دون حساب وكل يوم،وكان آخر شيء أعطاه عندما انطلق ليهاجم أحد الخنادق،أعطى بسخاء وحزم الآخرينبكل مايملك،كما فعل ذات مساء،عندما ركض فوق كراسي المطعم كي لايزعجني"


"لم يترك موته إلا حزناً أكيدًا لا يعترينا في أغلب الأحيان إلا على أشخاص أحببناهم كثيرًا وحاذيناهم دون انقطاع"


"بقيت سجين غرفتي أياماً عديدة مفكراً فيه"


وأخذ موت "سان لويعيد له ذكرى "ألبيرتين".الذكرى التي أخذ يكتب عنها بالكتاب السابق حتى النهاية.وبأسلوب لم يسبقه عليه أي كاتبمن قبل.


أعتقد أن هذه مشاعر عاشها بروست نفسه ومع شخصيات قريبة من أقرانها الأخرى بالرواية.

وربما كان موت "سان لويذكره بموت سائقه الخاص الذي توفي بزمن مقارب له.


الزمن المستعاد:

بعد هذه الحادثة يغيب الراوي عدة سنوات عن المجتمع في مصحة ثانية للعلاج.وبهذا الجزء يمثل العودة للحياة بعد انطفاء وغمرةأحزان وكدر طويل.


وبأول عودة تقف الذاكرة عند محطة قطار بالريف.يظهر للراوي منظر الشمس،على جذوع الأشجار القائمة في خط يوازي سكة القطار،يقولفيها مناجيًا الشجر: "أيتها الأشجار لم يبق عندك شيء تقولينه لي،لم يعد قلبي المتبرّد يسمعك.بيد أنني هنا في خضم الطبيعة.وتلاحظعيناي ببرود وملل الخط الذي يفصل جبهتك المنارة عن جذعك المعتم،لو ظننت نفسي شاعرًا لعلمتُ الآن أنني لستُه.ربما في القسم الثاني منحياتي القاحلة التي تبدأ الآن،سيتمكن البشر من إلهامي بما لم تعد تقوله لي الطبيعة.بيد أن السنين التي كان بوسعي أن أتغنى بها لنتعود أبدًا"


هذه الحسرات،حسرات الكاتب الذي يعلم أنه اقترب أجله ولم يشبع نفسه بما أراد كتابته خيال كان أم حقيقة.كل ذلك يستمر حتى نهايةالكتاب.


أما بعودته للمجتمع الراقي فقد كان رثاء بديع للزمن،وأثره على وجوه البشر وهيائتهم المنحنية.وخطواتهم الثقيلة تحت وطأة الشيخوخة.


يسرد الراوي عن شخصيات عديدة عرفها منذ طفولته ومعظمهم اعتاد رؤيتهم بصالونات الأمراء وآل غيرمانت.


أولهم كان البارون دوشارلوس ورفيقه جوبيان،فدوقة غيرمانت "أوريان"،وزوجها بازان،وأوديت الماكرة وابنتها جيلبيرت.وغيرهم ممن عبروابحياته بمحطات عدة كعائلة "آل كامبرميروصديقه اليهودي "بلوك".


هنا يتمثل متن النص،برأيي أن بروست بهذا الجزء تحديدًا الذي حكى فيه عن شبح الزمن بوجوه الناس ووجه الراوي أيضًا.قد تجلّى فيه عنعظمة السرد بتيار الوعي.هذا النص يترك أثر بليغ بنفس القرّاء،وذلك لواقعيته وللحالة الشعورية التي تعبر ومضاتٍ مؤلمة طوالحياتنا،كلحظات لا يستطيع أي كاتب عن إمساكها وطرحها بهذا الأسلوب.



أدب الذاكرة:

بذكرى عاشها الراوي جمعت عدة أزمنة وأماكن،ماضي وحاضر.تمثل أدب بروست بمشهد بديعذكره الراوي بالكتاب الأول "جانب منازل سوانوهو مشهد حلوى المجدلية المغموسة بكوب الشاي وصوت الملعقة وهي تلامس الصحن،مع مشهد حاضر في تباين مستوى بلاطتين كادالراوي يعثر أثناء عبوره عليها، وهو ضيف قادم على صالون أميرة "آل غيرمانت".


كانت تلك الذكرى تقول للراوي:

"اقبض عليّ أثناء مروري ان استطعت ذلك،وحاول أن تحل لغز السعادة التي أقدمها لك"


بهذه الذكرى عاد كما كان شاب يافع،يدفن وعيه في أرشيف الذاكرة ويعود للوراء حتى يتعرف عن سبب هذا الشعور الحالي،شعور البهجةاللطيف.وهاهو القلق ينجلي أثناء تذوق المجدلية.


والذاكرة تعود بنص طويل (عشر صفحاتلمشاعر متباينة تربط بين ثلاث ذكريات مختلفة وبزمن مختلف.غمس المجدلية في الماضي والآنفي مكتبة الأمير "دو غيرمانتحاضرًا.وقبله بقليل بباحة القصر،الشعور بالخطى.وصوت المعدن في الملعقة وملامستها للصحنبالحاضر،وصوت جرن معمودية في كنيسة القديس مرقص بالماضي.


"تذوق المجدلية المغموسة،الصوت المعدني،الشعور بالخطى"



مهماز الزمن:

كنت أظن أن الكتاب الخامس"السجينةوقبله السادس"الشاردةأفضل ما قد كتب لغة وأسلوب ومعنى بالعمل.ولكن الصفحات الأربعينالأخيرة،التي قاس فيها بروست الزمن متمثلاً بهيئة شابة بعمر السادسة عشر،وهي حفيدة سوان وأوديت.أبطال الكتاب الأول،وابنة صديقهالمقرب سان لو وحبيبته الأولى جيلبيرت.هذه الصفحات ربطت بين أجزاء السباعية كافة.ربطتها لغة وجزالة ومعنى رصين،ربطتها لغاية الكاتبالتي بدأ بها العمل،وأنهاه بها وهي مفردة "الزمن".


لشد ما أثرت بنفسي هذه الرؤية التي وصفها بروست بهيئة الشابة معتمدًا على ميزته بالكتابة "الذاكرة".



"إن الزمن الذي لا لون له والذي لا يمكن الإمساك به،قد تجسد فيها لكي أتمكن من رؤيته ولمسه،لقد شكلها كما يكون الفنان روائعه،في حينأنه لم يترك عليّ إلا آثار مروره،يا للأسف"


واستمر بوصفها والتمعن في الملامح والطبيعة التي أخذتها من جديها ووالديها.وخاصة والدها "سان لو".

قاس الزمن عليها في عبارة تكررت كثيرًا بمراسلاته_كما ذكر المترجموفي الجزء الثامن منها تحديدًا.عبارة "مهماز الزمن".


"رأيتها أكثر جمالاً أيضًامليئة بالآمال وضاحكة،شكلتها السنوات التي ضاعت مني.إنها تشبه شبابي"


"وفي النهاية كان لفكرة الزمن ثمن آخر بالنسبة لي،إنها مهماز،كانت تقول إنه حان الوقت لأبدأ


"وهذا ما جعلني أعتقد بأن الحياة جديرة بأن تُعاش"




الوصية الأخيرة:

لا يخفى على القارئ من أول جملة بالكتاب السابع وحتى نهايته أن بروست كان يوثق أيامه الأخيرة ما بين الرجاء وغلبة اليأس.في جمل عديدة عنالكتابة والموت.والشبه بين حياته بذلك الوقت وحياة الراوي دليل قاطع.من علاقته بأمه التي تجاهل حضورها هنا لأنه رثاها برمزية بالكتابالسابق،لشدة ألمه على فراقها فقد كانت أقرب الناس إليه.وحتى والده الذي كان حضوره نادر كما هي علاقة بروست بأبيه بالواقع لكثرة انشغاله بأبحاثه بعلم الطب والأوبئة.وعزلة بروست التي قضاها في رثاء للزمن وسطوته.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رفاهية القلق

قد تصبح الحياة عادية ولا شيء فيها يجعلنا نستيقظ بالغد، ما الذي يعزز هذا الشعور بالواقع؟ مرت ثلاثة أشهر على هذا الحال،أقول لنفسي كل يوم هل هذا الشعور عادي، أهو ملل أم اكتفاء أم هو اليأس! في كل مرة أريد إنجاز مهمة بسيطة من جدول العمل أجدني أنهض من على الكرسي وأذهب لأبحث عن أي شيء يجعلني لا أعود للمكتب، على الرغم من إدراكي أنني سبق وعشت مثل هذه المشاعر من قبل و لا سيما في بدايات الخطط طويلة المدى ،إلا أن الأمر هذه المرة مختلف. فقد كان يلازمني شعور ثقيل جدًا ، جلد للذات وخوف من فوات الفرص وتعب التأجيل، كنت أؤنب نفسي كثيرًا ،كان شعورًا مرهقًا بالفعل ولكنه كان يجبرني على البدء بالعمل وإنجاز المهام. هذه المرة لا أجد هذا الشعور بداخلي، أحاول أن أجد شيء ما يجعلني أعود لتلك الحساسية المفرطة اتجاه الزمن وسيلانه،والخوف من الاعتياد على حياة العبث،أحاول ولم أجده. ألاحظ مؤخرًا أنني صرت أشبه الكثير من النساء من حولي، كلما كنت بينهن أتذكر السنوات التي قضيتها من عمري وأنا أمقت حياتهن وهذا النمط الممل والكئيب من العيش،كنت أشعر أنها حياة خالية من حب الذات، حياة مليئة بالحسرة والندم على فوات الفرص.ولكن...

أبريل الميلاد: ولادة جديدة

منذ عام ٢٠٢٠ بكل شهر أبريل اعتدت تدوين ذاكرة سريعة أعود بها للوراء. ذاكرة أقتفي بها أثر تجارب جعلتني أفهم ذاتي وتصوري لما حولي، تجارب عشتها وتجاوزتها منذ الثاني من أبريل السابق وحتى الثاني من أبريل الحالي.  العام الماضي كان عامًا حافلاً اجتماعيًا ومهنيًا، واجهت فيه ما لم أتوقع أنني قادرة على مواجهته، وإن كانت النهايات مغايرة عما بذلته يكفي أنني تعلمت أن أصبح أكثر هدوءًا وأن أرفق بنفسي قبل كل شيء.   عمومًا هذه المرة لا أريد أن أتذكر إلا أمرًا واحدًا فقط، الأمر الأكثر أهميةً وثباتًا في ذاكرتي. حدث في سبتمبر الماضي وها هو اقترب تمامه، أمرٌ كنت أنتظره منذ عامين، انتظرته بين رجاء وخوف. هو موعد لقاء مع حلم يكبر بداخلي، لقائي مع طفلي الأول .أرجو أن تمضي أيامه المتبقية بكل خير وطمأنينة.  ما بين الخوف والفرح:  "الإنجاب" لطالما كنت أخاف هذا الأمر وقد كان سببًا في تجنبي الارتباط لسنوات. أن أصبح أُمّا لأحدهم وأن أجلبه لهذه الحياة ليس بالأمر السهل أبدًا، بكل مرة أفكر بذلك أتذكر مقولة "فرانز كافكا" لا يحضرني النص ولكنه عنى أن التربية أصعب مهمة تواجه الإنسان وقلما ...

ابريل الميلاد: الزمن ينتصر

قبل أن أكتب هذه التدوينة قرأت تدوينة ابريل الماضي،حتى أتذكر مالذي حصل بالأشهر الماضية ،حقيقة لا أدري كيف مرّت هذه السنة . منذ ابريل الماضي وحياتي تمضي بلا أية هوادة . لقد كان عامًا مزدهرًا جدًا بالنسبة لي ،مزدهرًا بالحب والرضا والطمأنينة،بالسكينة والحمدلله وإن كانت تزورني حالات قلق لأمرٍ ما زلتُ أجتهد في نيله ولكني أتلاشاه بأيام العبث والخفة المطلقة . حينما اقترب يوم ميلادي أدركت أن الزمن يمضي ولستُ بقادرة على عقد هدنةٍ معه . كما اعتدت بأعوامي الماضية مرةً قلتُ لنفسي هي محسوبة إلى أجل مسمى أعني الهدنة التي يغتالني فيها الزمن وأصبح بين الناس كائن ضبابي . كنت بذلك الوقت أقضي أيامها بجلد الذات ومراتٍ بالسكينة والرضا التام وبعضها بالعبث واللامبالاة . أمضيها بعزلة غير مرئية قد يصل بي الحال إلى هذيان مضنٍ ولا أطيق حالتي تلك،ولكني بالنهاية أخرج منها بنفسٍ خالصة من القلق والريبة . اليوم أشعر بأنني استسلمتُ لهاجس الزمن الذي رأيته كائنًا حيّ بالما...