التخطي إلى المحتوى الرئيسي

البحث عن الزمن المفقود(6)-مارسيل بروست

الكتاب السادسألبيرتين المختفية(الشاردة)




يعيش الراوي في الصفحات الأولى مشاعر متناقضة ما بين الحب والبغض فالإنكار من الحب فالغيرة فالشعور بأن الحبيبة لم تكن سوىصديقة ورفيقة وحدة.ويعود بعد ذلك للهوس بالسجينة كما هو الحال بالكتاب السابق.


ألبيرتين الشاردة انتهت للرحيل بسبب تصرفات الراوي فقد كان يتعذب من شكوكه ولا يستطيع أن ينفصل عنها.فاختارت هي أن تبدأالخطوة.ولكنها ظلت حتى النهاية على أمل العودة لحبيبها عندما يطلب إليها ذلك.


والمضحك أن الراوي ينكر هذه الرغبة التي كانت لديه هو الآخر،ينكرها لكبريائه.ويتخذ عدة طرق منها الكذب والحيلة حتى يحملها علىالرجوع إليه.

فهاهو يكذب بعلاقة له مع صديقتها "آندريه".ويتحايل بإرسال صديقه "سان لوللبحث عنها وإخبار عائلتها بطريقة سيئة حتى يروا أنالأفضل لها أن تعود إليه.



-الموت العودة الثانية:

بالكتاب الرابع "سادوم وعامورةيعيش الراوي برحلته الثانية لمدينة بالبيك برفقة والدته،آلام افتقاد جدته الراحلة بكل خطوة ومكان جدتهحاضرة.لدرجة تخيل فيها الراوي بأنها حية ترزق وتتحدث إليه.بهذا الكتاب يُجن حتى تعود له "ألبيرتينوقد كان يستشهد على تصرفاتهالغريبة من محيطه،كالخادمةفرانسوازوصديقه "سان لو".و بذلك الوقت تبادل مع الشاردة رسالتين.الثانية منها وصلته قبل تلقيه خبرموتها بزمن قصير جدًا.ولكنه قرأ خبر موتها قبل رسالتها الأخيرة.وقد كتب بروست عن شعور الفقد بأدق تفاصيله كما الحال مع كل إنسانمن صدمة وإنكار فهرب ومن ثم الألم فكوابيس تتوالى وأوجاع لا تنتهي.يصفها بأسلوب مرهف واقعي وحساس حتى نهاية السباعية

ومما زاد آلام السارد أنه تلقى رسالة تبعت تاريخ الثانية بيوم.أي وصلته ثلاث رسائل لألبيرتين.واحدة أثناء حياتها واثنتين قرأها بعد تلقيه خبروفاتها.


واستهلت الرسالة الأخيرة بقولها: "هل تأخر الوقت لأعود إليك؟"


مشاعر الأسى والندم التي حلت على الراوي زادت من لوعة الفقد وآلام الصدمة.وقد ارتبط الموت لديه بالرغبة أكثر بالعزلة.وكأنه يعاقب نفسهلأنهم أموات وهو حيّ من بعدهم.




-الاعتياد ما بين الألم والنسيان:

أذكر عبارة للراوي أعتقد بالكتاب الرابع،يتحدث فيها عن حالة أمه بعد وفاة والدتها.لحظة سرق النسيان منها ضحكة وهي في حداد علىأمها.كان يصف كيف انطفأت ابتسامتها وانتهت بنظرة لؤم لنفسها على نسيان حزنها.


السارد هنا يواسي نفسه بنعمة النسيان.وذلك من تجربة عاشها مرات عدة.بعد انفصاله عن جيلبيرت ومن ثم نسيانه لمدام دوغيرمانت.فنسيان ألمه فقد جدته.

ويقول: "وفي النسيان الكامل يكمن العقاب الأكثر عدلاً وضراوة.إنه نسيان شبيه بنسيان المقابر وبه ننفصل عن أولئك الذين لم نعد نحبهمونرى أن هذا النسيان نفسه لا مناص منه إزاء الذين مازلنا نحبهم.والحق يقال،إنها حالة غير أليمة،حالة من اللامبالاة،وهذا ما نعلمه"


وأثناء مجاراته للمبالاة تعود ذكرى القُبل واللمسات الحنونة.ذكريات رقيقة جدًا يسحق القارئ ألم زوال صاحبتها للأبد.

وضجة الحياة الخارجية كل يوم تجعله يأمل نسيانها من جديد والتحرر منها.والتفكير بالسفر وفعل عدة أمور كانت السجينة ألبيرتين حاجزيمنعه من الوصول إليها.


وكما هي طبيعة الحياة بعد الفقد ما بين كدر ونسيان حزن واعتياد.يسرد الراوي حالات الإنسان هذه قياساً على شخصيتهوتناقضاتها،بأسلوب عذب يعتمد فيه على الذاكرة.فكل مكان يزوره يتذكر الفقيدة وما عاشه وإياها بالماضي وما صار إليه بدونها.يحتال علىنفسه ويقر بأنه لم يحبها وبأنه لم يعرف معها سوى الأسى.لدرجة يقول فيها بأن المرأة بالحياة ليست عنصر سعادة بل أسى.

وبنفس اللحظة يقول بأن موت جدته وألبيرتين جريمة ارتكبها هو


"في تلك الأوقات التي قارنت فيها موت جدتي بموت ألبيرتين،بدا لي أن حياتي ملطخة بجريمتي قتل،ولن يغفرهما لي إلا جبن العالم وحده"


الألم هذا حالة علاجية يعتقد الراوي بأنه يحتاجه حتى يتخفف من هول الواقع والتذكر: "والألم كالثَّمل هو مخفف هائل للواقع"


كحاجز يقف على الصور والذكريات كأنها مادة أو قطعة من عالم آخر لا يعني له.وباستمراره يقتنع بأنه الحل الوحيد للنجاة.


"لا يمكن أن نشفى من ألم ما لم نعشه بشكل كامل"


يقر بأنه بمجاراة النسيان إنما يخدع نفسه،ويؤجل شفاؤه.وهذا ما يعلمه كل إنسان،بأن هذا حقاً الحل الأمثل للنجاة والعودة للحياة منجديد،وإن كان الاعتياد بحد ذاته مؤلم ولا نغفر لأنفسنا تقبلنا ذلك الفعل.




ألبيرتين الغامضة:

أثناء اعتياد السارد على موت ألبيرتين،تظهر حقائق عن شكوكه في سحاقيتها.ولكنه يظل يتوه القارئ بصحة هذه الحقائق.إما لخوفه أنيعترف بتعرضه للخيانة،وإما لأنه لايريد أن تظهر شكوكه وعذاباته بالكتابين السابقة محض  وساوس لا صحة لها. (كما ذكرت سابقًا يشعرالقارئ أن الرواية سيرة ذاتية لبروست).


يتخذ الراوي من احتمال صحة الشكوك سببًا لتجاوز ألم موت ألبيرتين المذنبة،فينغمس بمتع مع نساء يعتقد بأن ألبيرتين كانت على علاقة بهنوما بين الغيرة والندم،يعود الحزن للظهور.كل ما سبق كان بالفصل الأول فقط.وبقية الفصول يترك فيها الزمن ليتكفل بعلاجه من الذاكرة.


وتظل ألبيرتين غامضة حتى نهاية الرواية بالنسبة للقارئ.رغم إنكار صديقتها المقربة "آندريهوتناقضاتها اللاحقة بهذا الشأن.والتي أظهرهاالراوي بقفزات زمنية بالفصل الثاني.يظل السارد نفسه على شك من براءة وذنب ألبيرتين.ولكن بالغالب يشعر القارئ مثل الخادمة"فرانسوازبالنفور والاشمئزاز من ألبيرتين وذكراها.




-سيلان الزمن:

يتوق الراوي لحياة المجتمع وأول علامات رغبة العودة للحياة تكمن في نشر أول مقالة للراوي في جريدة "لوفيغاروتعتبر أحد أهم صحفالرأي بفرنسا.وقد كان بروست يرأس قسم السجلات فيها حوالي 1895.


يرغب الراوي بسماع رأي أصدقائه ومعارفه بالمقالة التي نشرت له.فيحضر للعشاء لدى الدوقة غيرمانت.وهناك يلتقي بالآنسة "دو فورشفيلوهي صديقة الصبا وابنة سوان الراحل "جيلبيرت" .وتحت أثر عملية النسيان التي اتخذتها جيلبيرت لوالدها،ولا سيما لاسمه الذي ألغته بعدزواج أمها "أوديت"من غيره.يُعجل فعل جيلبيرت لعملية نسيان الراوي لألبيرتين.


"كنت أتوق لأصير بكاملي شخصاً جديدًا،لا لأن الآخرين قد ماتوا،يضعف حبنا لهم،بل لأننا نموت نحن أيضاً"


ألم يقلها بيسوا من قبل: "بالنسبة لي التغيير - العبور من حال إلى آخر - موت جزئي؛ شيء ما فينا يموت"




-الأم رؤيا أم واقع:

الفصل الثالث من الكتاب شعرت أن بروست أخذ زمناً طويلاً قبل أن يكتبه.يبدأ السرد في رحلة للبندقية مع أمه.باعتقادي أنه كتب هذا الفصلبأيامه الأخيرة وبالليالي التي كان يقضيها بفراشه أثناء مرضه.قيل أنه كان يكتب فقط بالليل.ومن ليالي الأرق تلك ظهرت بقية أجزاء الروايةوالتي نشرها أخوه روبير بعد وفاة بروست.


هذا الفصل يمثل ذكريات العودة،كومبريه ومقارنتها بالحاضر بالبندقية.ورؤية الأم وكأنها محض خيال.حوالي مشهدين أو ثلاثة ظهرت رمزيةبالسرد تدل على حضور الأم وكأنها رؤيا منام.يقول بأحدها:

"اضطررت إلى حبس دموعي،لأن النافذة كانت وبكل بساطة تقول لي الشيء الذي يستطيع أن يؤثر فيّ بالغ التأثير: "إني أتذكر أمك جيدًا"


وبآخر يقول: "لم أكن غير مبال بأن تكون إلى جانبي،في هذا الظل الرطب الخفيف،امرأة متلفعة بحزنها الورع الجليل وحماس تلك المرأةالمسنة التي نراها في البندقية في لوحة "كارباتشيو المسماة "القديسة أوسولاوأن تكون هذه المرأة ذات الخدين الحمراوين والعينينالحزينتين في غطائها الأسود والتي لا يمكن لأي شيء أن يخرجها من معبد كاتدرائية القديس مرقص الخفيفة الإضاءة،لأنني متأكد منأنني سأحبها لأن مكانها محفوظ وثابت كفسيفساء،أن تكون تلك المرأة هي والدتي" !! ما هذا الوصف البديع.


وبآخر الفصل مشهد وداع،كأنه رثاء لذكرى أثيرة عاشها الراوي نفسه مع أمه.وعلى وقع أغنية "وحيد أنا" (Sole mio) 

https://youtu.be/uMYtShGhgkc


يشدوها مغني فيمركب متوقف أمام الفندق الذي استعد السارد على الرحيل منه،لوداع أمه عند محطة القطار لتتركه وحيد بالبندقية.كان اللحن يواسي وحدةوقلق واضطراب السارد على رحيل أمه وكونه وحيد آلامه وذكرياته.يكتب بروست حالة شعورية كما اعتاد عليه القارئ.بالنسبة لي كقارئةالحالة جسدت لحظة إنسانية يتصادم فيها الوحشة والحزن مع الإقرار بطبيعة الحياة وما تحمله من أتراح وأفراح.لحظة يكون فيها الإنسانمطمئن لقدرته على تجاوز الفقد،واليقين بأن الاعتياد ليس سوى وسيلة للاستمرار،وسيلة لتقبل أوجاعنا ومعايشتها كغيرها من المشاعرالطيبة.


وياليت باستطاعتي أن أصف ذلك النص وبما تركه بنفسي من أثر بليغ.

أتذكر هنا ما قاله بروست في نهاية السباعية بالصفحة 190 وإن كان شعور مختلف ولكنه لغاية واحدة يتساءل فيها: "هل يستطيع الكاتبأن يأمل بنقل متعة إلى القارئ لم يشعر بها هو؟"


وبنهاية هذا الفصل كان السارد يخبرنا كيف استطاع الزمن مساعدته بالعيش مع الموت.موت ألبيرتين،وربما موت والدة بروست بالواقع.


أما الفصل الرابع والأخير من هذا الجزء فيعتبر كمقدمة للكتاب السابع والذي أعتبره سيرة ذاتية على حياة مارسيل بروست وتحديدًا علىأيامه الأخيرة بالمجتمع ومع ذاته.حياة الرثاء والحسرات ومصافحة الشيخوخة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رفاهية القلق

قد تصبح الحياة عادية ولا شيء فيها يجعلنا نستيقظ بالغد، ما الذي يعزز هذا الشعور بالواقع؟ مرت ثلاثة أشهر على هذا الحال،أقول لنفسي كل يوم هل هذا الشعور عادي، أهو ملل أم اكتفاء أم هو اليأس! في كل مرة أريد إنجاز مهمة بسيطة من جدول العمل أجدني أنهض من على الكرسي وأذهب لأبحث عن أي شيء يجعلني لا أعود للمكتب، على الرغم من إدراكي أنني سبق وعشت مثل هذه المشاعر من قبل و لا سيما في بدايات الخطط طويلة المدى ،إلا أن الأمر هذه المرة مختلف. فقد كان يلازمني شعور ثقيل جدًا ، جلد للذات وخوف من فوات الفرص وتعب التأجيل، كنت أؤنب نفسي كثيرًا ،كان شعورًا مرهقًا بالفعل ولكنه كان يجبرني على البدء بالعمل وإنجاز المهام. هذه المرة لا أجد هذا الشعور بداخلي، أحاول أن أجد شيء ما يجعلني أعود لتلك الحساسية المفرطة اتجاه الزمن وسيلانه،والخوف من الاعتياد على حياة العبث،أحاول ولم أجده. ألاحظ مؤخرًا أنني صرت أشبه الكثير من النساء من حولي، كلما كنت بينهن أتذكر السنوات التي قضيتها من عمري وأنا أمقت حياتهن وهذا النمط الممل والكئيب من العيش،كنت أشعر أنها حياة خالية من حب الذات، حياة مليئة بالحسرة والندم على فوات الفرص.ولكن...

أبريل الميلاد: ولادة جديدة

منذ عام ٢٠٢٠ بكل شهر أبريل اعتدت تدوين ذاكرة سريعة أعود بها للوراء. ذاكرة أقتفي بها أثر تجارب جعلتني أفهم ذاتي وتصوري لما حولي، تجارب عشتها وتجاوزتها منذ الثاني من أبريل السابق وحتى الثاني من أبريل الحالي.  العام الماضي كان عامًا حافلاً اجتماعيًا ومهنيًا، واجهت فيه ما لم أتوقع أنني قادرة على مواجهته، وإن كانت النهايات مغايرة عما بذلته يكفي أنني تعلمت أن أصبح أكثر هدوءًا وأن أرفق بنفسي قبل كل شيء.   عمومًا هذه المرة لا أريد أن أتذكر إلا أمرًا واحدًا فقط، الأمر الأكثر أهميةً وثباتًا في ذاكرتي. حدث في سبتمبر الماضي وها هو اقترب تمامه، أمرٌ كنت أنتظره منذ عامين، انتظرته بين رجاء وخوف. هو موعد لقاء مع حلم يكبر بداخلي، لقائي مع طفلي الأول .أرجو أن تمضي أيامه المتبقية بكل خير وطمأنينة.  ما بين الخوف والفرح:  "الإنجاب" لطالما كنت أخاف هذا الأمر وقد كان سببًا في تجنبي الارتباط لسنوات. أن أصبح أُمّا لأحدهم وأن أجلبه لهذه الحياة ليس بالأمر السهل أبدًا، بكل مرة أفكر بذلك أتذكر مقولة "فرانز كافكا" لا يحضرني النص ولكنه عنى أن التربية أصعب مهمة تواجه الإنسان وقلما ...

ابريل الميلاد: الزمن ينتصر

قبل أن أكتب هذه التدوينة قرأت تدوينة ابريل الماضي،حتى أتذكر مالذي حصل بالأشهر الماضية ،حقيقة لا أدري كيف مرّت هذه السنة . منذ ابريل الماضي وحياتي تمضي بلا أية هوادة . لقد كان عامًا مزدهرًا جدًا بالنسبة لي ،مزدهرًا بالحب والرضا والطمأنينة،بالسكينة والحمدلله وإن كانت تزورني حالات قلق لأمرٍ ما زلتُ أجتهد في نيله ولكني أتلاشاه بأيام العبث والخفة المطلقة . حينما اقترب يوم ميلادي أدركت أن الزمن يمضي ولستُ بقادرة على عقد هدنةٍ معه . كما اعتدت بأعوامي الماضية مرةً قلتُ لنفسي هي محسوبة إلى أجل مسمى أعني الهدنة التي يغتالني فيها الزمن وأصبح بين الناس كائن ضبابي . كنت بذلك الوقت أقضي أيامها بجلد الذات ومراتٍ بالسكينة والرضا التام وبعضها بالعبث واللامبالاة . أمضيها بعزلة غير مرئية قد يصل بي الحال إلى هذيان مضنٍ ولا أطيق حالتي تلك،ولكني بالنهاية أخرج منها بنفسٍ خالصة من القلق والريبة . اليوم أشعر بأنني استسلمتُ لهاجس الزمن الذي رأيته كائنًا حيّ بالما...