التخطي إلى المحتوى الرئيسي

البحث عن الزمن المفقود(5)-مارسيل بروست

الكتاب الخامسالسجينة




-السجان والسجين:

بعد قرار الزواج الذي اتخذه الراوي من آلبيرتين في بالبيك،يعود بالخطيبة للعيش بمنزله بباريس وهي تسكن على بعد عشرين خطوة منغرفته،يعيش وإياها بالإضافة لمدبرة المنزل "فرانسوازالتي تمقت فكرة وجود الفتاة قبل الزواج بالقرب من خطيبها.وتكون كالمراقب أوالمسؤول عن سيدها الصغير أثناء غياب والدته عن المنزل ومكوث الفتاة معه لوحدهما.


موقف الراوي كان متردد من المضي بالزواج لأسباب اتضحت من شكوكه السابقة بسحاقيتها ومن ماضيها الغامض بالإضافة لإجاباتهاالمراوغة،وأخطائها العفوية وجهلها بقيم ومبادئ المجتمع البرجوازي وعاداته اليومية والتي ظهرت تحديدًا من سكنها بمنزل الراوي وبصمتكامل عن معرفة الناس.


تستمر الحياة ما بين الغيرة والنكران الولع وشهوة الشباب يطفئها من وقت لآخر شكوك لمواقف مربكة تكاد تصل بالراوي للجنون.يلحظ منهاالقارئ أن السجان لا يفرق عن السجين بشيء.فهو يظل أسير مخاوفه من صحة الشكوك وقلقه من ظلمه لآلبرتين ويظل أسير لحبه،حبلايطيقه ويصفه بأنه مرض يضعفه.وكما أنه ظل سجين منزله مخافة خروجها من خلفه أو استقبالها لأحدهم،وحتى أثناء خروجه كان سجينوساوس قاهرة.




-ظهور الراوي:

ما بين الحيلة والتأكيد،يلمح الراوي في هذا الكتاب وأخيرًا عن اسمه "مارسيل".ولم يتكرر ذلك سوى مرتين طوال السباعية.

ففي مشهد بديع يصف فيه الراوي لذة تأمل الحبيبة أثناء نومها.ينتهي باستيقاظها ومناداة صاحبها بهذا الاسم،ولكن الراوي يتحايل علىالقارئ بقوله أن ذلك محض افتراض عابر.

فيقول عنها: "يا صغيريأو "يا حبيبيوتُتبع هذا أو ذاك باسمي،الأمر الذي كان يفضي،إن أطلقنا على الراوي اسم مؤلف هذاالكتاب،إلى: "صغيري مارسيل"، "مارسيل الحبيب".

وبمشهد آخر تدعوه فيه آلبيرتين: "عزيزي الغالي مارسيل"..ياله "مارسيلياله "مارسيلأنا كلي لك."


هنا يلمح الراوي لاسمه كافتراض ولكن بذات الوقت كتأكيد بسيط ومعتاد على لسان صاحبته.




-آلبيرتين المتعددة:

الميزة التي أفضلها بسرد بروست،والتي استمرت من أول كتاب وحتى السابع.ميزة التشبيهات العجيبة.سواء بحالة شعورية أو بمشهد واقعيبالحاضر أو الماضي وحتى بالجمادات.بهذا الجزء تشبيه مختلف لآلبيرتين،وهو من ضمن عدة مشاهد للراوي يتأمل فيه آلبيريتن النائمة.


وبما أنه وقع فريسة لشكوكه بأخلاقياتها من جهة،وببراءتها وبحبه لها من جهة أخرى،وصراعه مع غيرة جنونية صامتة تحت ظل حضورهالهادئ.كان زمن نوم آلبيرتين يجسد براءتها،وحبه الشديد لها يظهر بتلك اللحظات.وبكل مرة يقترب منها أثناء نومها كان يتلذذ بهذاالحب.ويرجو البقاء معها على هذا الحال.

كانت آلبيرين تظهر ببراءة الأطفال وظرافتهم،ولحظة يزوره القلق من شكوكه وهو بتلك الحالة من اللذة والطمأنينة،يشعر أنه بجانب عدة"آلبيرتيناتعدة في واحدة!

فيقول: " إنني أرى كثيرات غيرها يرقدن بالقرب مني


وقوله: "وكانت في كل مرة تبدل فيها موضع رأسها تبتدع امرأة جديدة،ماكنت في الغالب أتوقعها،ويبدو لي أنني لا أملك فتاة واحدة بل عددًالا يحصى من الفتيات"


وقد تعددت التشبيهات لآلبيرتين النائمة،مرة يشعر بها وكأنها شجرة وهذا من أجمل وأرق التشبيهات،بالإضافة لتشبيه لسائر جسدهابالنباتات.وبالقوارب وسلاسلها التي يؤرجحها الموج.ومرة يشبه أنفاسها بآلة عزف تنبعث من أوتارها نغمات مختلفة أثناء ملامسته لها.ساعةيشبه نومها بالحيوان الذي ينام أي كانت الوضعية،وساعة أخرى يشبهها بالطفل الوديع الذي يفتن أمه هدوءه الشديد.



-المرأة الجمال والوهم لدى بروست ودوستويفسكي:

كثيرًا ما تحدث بروست عن دوستويفسكي بهذا العمل،ويتضح إعجابه به من عدة نواحي.أحدها المرأة بأعماله،والتي تحدث عنها بهذاالجزء.يربط جمالها الجذاب والغامض بوقاحة فظيعة.وذكر كمثال "نستازيا فيلبوفيناو "غروشنكاو "كاترينا إيفانوفنا" .نص طويل يجرينقاشه بين الراوي وآلبيرتين.وبهذا النص يكرر بروست نظرة عدوانية للمرأة ولصدقها بالمحبة عامة.وقد ظهرت هذه النظرة بوضوح بالكتابالسادس .


الجمال عامة لدى دوستويفسكي والمعروف عنه،يصفه بروست بجمال جديد جيء به للعالم.سواء بالأشخاص أو بالأماكن،كمثال بيت الاغتيال"بالجريمة والعقابوالبيت الآخر الذي يفوقه جمال كان بيت "روغوجينالذي قتل فيه "نستازيا فيلبوفينابالأبله.


يقول عنه: "هذا الجمال الجديد المخيف لبيت من البيوت،وهذا الجمال المختلط في وجه امرأة،ذلك ما جاء به دوستويفسكي للعالم من أمرفريدبمعنى أن لا قدرة لأي كاتب أن يقترب من هذا الجمال الخفي،الجمال الذي يختلط فيه الوقاحة بالخوف .حتى ما أجمع عليه النقادمقارنة مع "غوغولأو مع "بول دوكوك".


وكما هو الوهم المدهش في الفن عمومًا هكذا يُقدم دوستويفسكي شخصياته.ويأخذ بروست أحد شخصيات العمل المهمة وهو فنان"إيلستيروأعماله كمثال للشبه.بالإضافة للأدب كمثال لرسائل السيدة دوسيفينيه.وهو الكتاب المفضل لجدة الراوي،والذي استمر ذكره بحوارات عدة معها ومع والدته ومع ذاته وبعض رفاقه.



-وسواس مفردة:

أذكر أن أحد الناشرين الذي أرسل إليهم بروست الجزء الأول من السباعية،كان يقول انتقادًا لجمل بروست الطويلة،أن لاوقت لديه لقراءة مثل هذا التعقيد.بهذا الجزء لفتني تحليل نفسي بوعي الراوي،تحليل لمفردة نطقتها آلبيرتين بحوار بينها وبينه.وقد كان بزمن سجنه لها وأزمته معمطاردة ماضيها وعلاقتها بالنساء.أخذت تبرر له موقف ما ،وتوقف لسانها على رأس مفردة لم تكملها.

العجيب أن هذه الحالة تصيب عامة الناس،وقلما أحدهم يتفكر بالوسواس الذي أصبح فيه وما سببه والأهم ما الزمن الذي اقتضاه وهو يتفكربمفردة واحدةهنا بروست يكتب عن ذلك بأسلوب تيار الوعي المتدفق.يستنتج القارئ بنهاية النص (حوالي أربع صفحاتأن الهاجس لايختلف عند كل عاشق.وهذه طبيعة بالإنسان لا تموت.وبروست استطاع طرحها بسلاسة لا تخلو من البراعة وبعض التعقيد ربما لم يسبقهعليها أحد من قبل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رفاهية القلق

قد تصبح الحياة عادية ولا شيء فيها يجعلنا نستيقظ بالغد، ما الذي يعزز هذا الشعور بالواقع؟ مرت ثلاثة أشهر على هذا الحال،أقول لنفسي كل يوم هل هذا الشعور عادي، أهو ملل أم اكتفاء أم هو اليأس! في كل مرة أريد إنجاز مهمة بسيطة من جدول العمل أجدني أنهض من على الكرسي وأذهب لأبحث عن أي شيء يجعلني لا أعود للمكتب، على الرغم من إدراكي أنني سبق وعشت مثل هذه المشاعر من قبل و لا سيما في بدايات الخطط طويلة المدى ،إلا أن الأمر هذه المرة مختلف. فقد كان يلازمني شعور ثقيل جدًا ، جلد للذات وخوف من فوات الفرص وتعب التأجيل، كنت أؤنب نفسي كثيرًا ،كان شعورًا مرهقًا بالفعل ولكنه كان يجبرني على البدء بالعمل وإنجاز المهام. هذه المرة لا أجد هذا الشعور بداخلي، أحاول أن أجد شيء ما يجعلني أعود لتلك الحساسية المفرطة اتجاه الزمن وسيلانه،والخوف من الاعتياد على حياة العبث،أحاول ولم أجده. ألاحظ مؤخرًا أنني صرت أشبه الكثير من النساء من حولي، كلما كنت بينهن أتذكر السنوات التي قضيتها من عمري وأنا أمقت حياتهن وهذا النمط الممل والكئيب من العيش،كنت أشعر أنها حياة خالية من حب الذات، حياة مليئة بالحسرة والندم على فوات الفرص.ولكن...

أبريل الميلاد: ولادة جديدة

منذ عام ٢٠٢٠ بكل شهر أبريل اعتدت تدوين ذاكرة سريعة أعود بها للوراء. ذاكرة أقتفي بها أثر تجارب جعلتني أفهم ذاتي وتصوري لما حولي، تجارب عشتها وتجاوزتها منذ الثاني من أبريل السابق وحتى الثاني من أبريل الحالي.  العام الماضي كان عامًا حافلاً اجتماعيًا ومهنيًا، واجهت فيه ما لم أتوقع أنني قادرة على مواجهته، وإن كانت النهايات مغايرة عما بذلته يكفي أنني تعلمت أن أصبح أكثر هدوءًا وأن أرفق بنفسي قبل كل شيء.   عمومًا هذه المرة لا أريد أن أتذكر إلا أمرًا واحدًا فقط، الأمر الأكثر أهميةً وثباتًا في ذاكرتي. حدث في سبتمبر الماضي وها هو اقترب تمامه، أمرٌ كنت أنتظره منذ عامين، انتظرته بين رجاء وخوف. هو موعد لقاء مع حلم يكبر بداخلي، لقائي مع طفلي الأول .أرجو أن تمضي أيامه المتبقية بكل خير وطمأنينة.  ما بين الخوف والفرح:  "الإنجاب" لطالما كنت أخاف هذا الأمر وقد كان سببًا في تجنبي الارتباط لسنوات. أن أصبح أُمّا لأحدهم وأن أجلبه لهذه الحياة ليس بالأمر السهل أبدًا، بكل مرة أفكر بذلك أتذكر مقولة "فرانز كافكا" لا يحضرني النص ولكنه عنى أن التربية أصعب مهمة تواجه الإنسان وقلما ...

ابريل الميلاد: الزمن ينتصر

قبل أن أكتب هذه التدوينة قرأت تدوينة ابريل الماضي،حتى أتذكر مالذي حصل بالأشهر الماضية ،حقيقة لا أدري كيف مرّت هذه السنة . منذ ابريل الماضي وحياتي تمضي بلا أية هوادة . لقد كان عامًا مزدهرًا جدًا بالنسبة لي ،مزدهرًا بالحب والرضا والطمأنينة،بالسكينة والحمدلله وإن كانت تزورني حالات قلق لأمرٍ ما زلتُ أجتهد في نيله ولكني أتلاشاه بأيام العبث والخفة المطلقة . حينما اقترب يوم ميلادي أدركت أن الزمن يمضي ولستُ بقادرة على عقد هدنةٍ معه . كما اعتدت بأعوامي الماضية مرةً قلتُ لنفسي هي محسوبة إلى أجل مسمى أعني الهدنة التي يغتالني فيها الزمن وأصبح بين الناس كائن ضبابي . كنت بذلك الوقت أقضي أيامها بجلد الذات ومراتٍ بالسكينة والرضا التام وبعضها بالعبث واللامبالاة . أمضيها بعزلة غير مرئية قد يصل بي الحال إلى هذيان مضنٍ ولا أطيق حالتي تلك،ولكني بالنهاية أخرج منها بنفسٍ خالصة من القلق والريبة . اليوم أشعر بأنني استسلمتُ لهاجس الزمن الذي رأيته كائنًا حيّ بالما...