الكتاب الثالث: "جانب منازل غرمانت"
قال لي صديق هذا الكتاب سيختبر صبرك.لذلك اخترت قراءته على مهل وبمزاج جيد.وحقاً مثلما قال،فهو لا يقارن بالكتابين السابقة،من حيثالأحداث ومتابعتها.ولكن السارد بالقسم الأول يتفوق بهذا الجانب على القسم الثاني والأخير والأكبر من العمل.
الشغف والذاكرة:
ما بين خفوت،استحضار ،توهج وخيال فذ.يتجاوز الراوي الصبا ليصبح شاب مسؤول عن نفسه وله حياة منفصلة بمعظم تنقلاته عنعائلته.حيث كان حضور والديه بالعمل نادر للغاية مقارنة بجدته الحاضرة بالكتاب الثاني،حتى وفاتها هنا ببداية القسم الأخير.
الشغف بالأنثى وعالمها يرتكز على جارته السيدة "غرمانت" حالة فوضوية يصل معها للبؤس.وقد برع في نسج مشاعر الراوي وأفعاله خيالاتهوصمته كما فعل ذات الشيء مع شخصية "سان لو" وعذابه مع "راحيل".والذاكرة مع "دو غرمانت"ومشاعره لفتيات الصبا،وحضور اسم "آلغرمانت" بطفولته،وأثرها بالمجتمع.
بهذا الشغف الذي يقف على وعي العاشق كتب الراوي عن صديقه "سان لو" وما يعانيه من حبه لصاحبته،نص من أعذب وأبلغ ما قيل فيصمت المحب..في صمته وصبره العظيم:
"لقد قيل إن الصمت قوة،وإنه لقوة رهيبة في يد المعشوقين.بمعنى يختلف تمام الاختلاف.فهي تزيد من قلق الذي ينتظر.ليس ما يدعو إلىالاقتراب من شخص كمثل ما يفصلك عنه،وأي حاجز أكثر امتناعاً من الصمت؟ لقد قيل أيضاً إن الصمت عذاب وهو قادر أن يذهب بعقل منكان يُفتَرضُ عليه في السجون.ولكن أي عذاب ذاك،وهو أشد من التزام الصمت.أن تكابده على يد من تحب!"
ويحاكي (السارد العالم) هاجس المحب بداخله فيقول:
" وما عساني فعلت حتى تصمت هذا الصمت؟..لعلها تكرهني،وإلى الأبد"
ثيمة الفن في الحياة والموت:
من الكتاب الأول والفن حاضر بأبسط التفاصيل كتشبيهات و حوارات بين الشخصيات وآخرين يمتهنون الفن.ذات الشيء هنا ولكن مختزلبسلاسة،بالحياة اليومية وبجمال البشر.وبالنبات والجماد.لفتني تشبيه للنحّت لجسد ميت.وبهذا الجزء فصل كامل يغلب عليه سرد بليغلاحتضار جدته.
قضية دريفوس:
تعتبر القضية النشاط السياسي الوحيد بحياة بروست،فقد كان من ضمن الأسماء الأدبية بجانب إميل زولا،ليون بلوم وأناتول فرانس،أسماءالتحقت بمبادرة تشكلت لمراجعة الحكم الصادر بحق دريفوس.وذلك في يناير 1898.وقد عُدت هذه المبادرة كشهادة رسمية أو ميلاد لدورالمثقف بالتاريخ. وقيل أن بروست هو من أقنع أناتول فرانس للانضمام والتوقيع معهم.
اهتمام بروست بالقضية تجسد بهذا الكتاب تحديدًا،لا يخلو أي حديث بين مجموعة أفراد أو اثنين عنها،المجتمع الفرنسي منقسم بين مؤيدللتهمة وهم الشريحة الأكبر،وبين مناهض لها وهم قلة.كما أن "زولا"ومحاكمته حاضرة بعدة نقاشات،وقد تكررت مفردة السامية كثيرًا تزامناًمع كل ظهور لشخصية جديدة.
هوية الراوي:
السارد العالم بدواخل الشخصيات يعود ويذهب،والراوي الذي لم يكشف حتى عن اسمه مستمر بالتخفي.ولكن دخول الأول منهما يضطرببفكر القارئ وقد لا ينتبه له مع التغير بالأحداث.وكلا الاثنين باعتقادي هما ذات الشخص.ربما أنها قفزات زمنية للراوي.وستظهر بنهايةالسباعية!
تولستوي وبروست والشخصيات العديدة:
يتشعب بروست في الفصل الأخير بصورة خاصة للأمسيات بالمجتمع الراقي_وهذا الفصل الذي يختبر صبر القارئ_بأسلوب رصين حتىالنهاية يتخلله ظهور أسماء عديدة.كل التفاصيل من أولها ذكرتني بتولستوي في "الحرب والسلم" صورة عامة للمكان وذهن متقد للحاضرين. هوياتهم ومكانتهم ميراثهم وأصلهم.والأهم أحاديثهم (وهنا يخرج كثيرًا السارد العالم بالغيب).الراوي لا يغفل عن الخدم والوصيفات،وحتىعن أسماء الغائبين ممن ذكروا بالسهرة.ولكن تولستوي لا يقارن أبدًا،بالحرب والسلم يشعر القارئ بنفسه داخل العمل.كيف؟!
بداية يكتب تولستوي عن الشخصية
المستضيفة،صالة الاستقبال ومائدة العشاء،المزهريات اللوحات الأزياء.والحاضرين فرد فرد !اسمه أصله شكله ملبسه تصرفاته تغيرملامحه.كل هذا بإيجاز وسهولة.
أكرر ما قلت سابقاً عن "الحرب والسلم":
بالنسبة لرواية تولستوي"الحرب و السلم " فتعتبر أمر آخر لا يقف على جانب،و يستحيل أن يسجل التاريخ وصف شامل لها ﻷنها بعيدةكل البعد عن التصنيف. ليس ﻷنه تولستوي و لا ﻷنها الحرب و السلم و لا ﻷنها مجلدات ضخمة و لا حتى ﻷن أعظم النقاد و الكتاب وصفوهابأنها اللامثيل في جنسها. بل ﻷنك ستعجز. ستعجز عن الحصر الهائل لمشاعرك المتناقضة و الناقصة من النطق و اﻷخرى المتراصة فوقبعضها لانتظار دورها،و ستضيع و يمسكك البكاء فقط. البكاء لعظمة الحظ الذي جعلها تقع بين يديك..و لضعفك عن إيجاز جمال و بديع ماخلده اﻷدب في تاريخه.قراءة الرواية هي فن نثري إنساني حافل بالحياة.
تولستوي قال: "ما كتاب "الحرب و السلم "برواية،و لا هو بقصيدة و لا هو بسجل وقائع تاريخية.الكتاب هو ما أراد المؤلف و ما استطاع أنيعبر عنه بهذا الشكل"
وهذا فقط عن حفلات وأمسيات الطبقة الرفيعة،وقد برع بروست في سرده عن الشخصية المستضيفة،حوالي مئة صفحة عن مكانة الدوقة"غرمانت"،وهذا يجعل من القارئ يستشعر مهابة الحضور هناك،بالمناسبة هذه الشخصية "أوريان" تمجد تولستوي فوق كل شيء.
تعليقات
إرسال تعليق