التخطي إلى المحتوى الرئيسي

البحث عن الزمن المفقود (3)-مارسيل بروست


الكتاب الثالث: "جانب منازل غرمانت"






قال لي صديق هذا الكتاب سيختبر صبرك.لذلك اخترت قراءته على مهل وبمزاج جيد.وحقاً مثلما قال،فهو لا يقارن بالكتابين السابقة،من حيثالأحداث ومتابعتها.ولكن السارد بالقسم الأول يتفوق بهذا الجانب على القسم الثاني والأخير والأكبر من العمل.



الشغف والذاكرة:

ما بين خفوت،استحضار ،توهج وخيال فذ.يتجاوز الراوي الصبا ليصبح شاب مسؤول عن نفسه وله حياة منفصلة بمعظم تنقلاته عنعائلته.حيث كان حضور والديه بالعمل نادر للغاية مقارنة بجدته الحاضرة بالكتاب الثاني،حتى وفاتها هنا ببداية القسم الأخير.



الشغف بالأنثى وعالمها يرتكز على جارته السيدة "غرمانتحالة فوضوية يصل معها للبؤس.وقد برع في نسج مشاعر الراوي وأفعاله خيالاتهوصمته كما فعل ذات الشيء مع شخصية "سان لووعذابه مع "راحيل".والذاكرة مع "دو غرمانت"ومشاعره لفتيات الصبا،وحضور اسم "آلغرمانتبطفولته،وأثرها بالمجتمع.





بهذا الشغف الذي يقف على وعي العاشق كتب الراوي عن صديقه "سان لووما يعانيه من حبه لصاحبته،نص من أعذب وأبلغ ما قيل فيصمت المحب..في صمته وصبره العظيم:


‏"لقد قيل إن الصمت قوة،وإنه لقوة رهيبة في يد المعشوقين.بمعنى يختلف تمام الاختلاف.فهي تزيد من قلق الذي ينتظر.ليس ما يدعو إلىالاقتراب من شخص كمثل ما يفصلك عنه،وأي حاجز أكثر امتناعاً من الصمت؟ ‏لقد قيل أيضاً إن الصمت عذاب وهو قادر أن يذهب بعقل منكان يُفتَرضُ عليه في السجون.ولكن أي عذاب ذاك،وهو أشد من التزام الصمت.أن تكابده على يد من تحب!"





ويحاكي (السارد العالمهاجس المحب بداخله فيقول:

‏" وما عساني فعلت حتى تصمت هذا الصمت؟..لعلها تكرهني،وإلى الأبد"



ثيمة الفن في الحياة والموت:

من الكتاب الأول والفن حاضر بأبسط التفاصيل كتشبيهات و حوارات بين الشخصيات وآخرين يمتهنون الفن.ذات الشيء هنا ولكن مختزلبسلاسة،بالحياة اليومية وبجمال البشر.وبالنبات والجماد.لفتني تشبيه للنحّت لجسد ميت.وبهذا الجزء فصل كامل يغلب عليه سرد بليغلاحتضار جدته.


قضية دريفوس:

تعتبر القضية النشاط السياسي الوحيد بحياة بروست،فقد كان من ضمن الأسماء الأدبية بجانب إميل زولا،ليون بلوم وأناتول فرانس،أسماءالتحقت بمبادرة تشكلت لمراجعة الحكم الصادر بحق دريفوس.وذلك في يناير 1898.وقد عُدت هذه المبادرة كشهادة رسمية أو ميلاد لدورالمثقف بالتاريخ. ‏وقيل أن بروست هو من أقنع أناتول فرانس للانضمام والتوقيع معهم.






اهتمام بروست بالقضية تجسد بهذا الكتاب تحديدًا،لا يخلو أي حديث بين مجموعة أفراد أو اثنين عنها،المجتمع الفرنسي منقسم بين مؤيدللتهمة وهم الشريحة الأكبر،وبين مناهض لها وهم قلة.كما أن "زولا"ومحاكمته حاضرة بعدة نقاشات،وقد تكررت مفردة السامية كثيرًا تزامناًمع كل ظهور لشخصية جديدة.


هوية الراوي:

السارد العالم بدواخل الشخصيات يعود ويذهب،والراوي الذي لم يكشف حتى عن اسمه مستمر بالتخفي.ولكن دخول الأول منهما يضطرببفكر القارئ وقد لا ينتبه له مع التغير بالأحداث.وكلا الاثنين باعتقادي هما ذات الشخص.ربما أنها قفزات زمنية للراوي.وستظهر بنهايةالسباعية!


تولستوي وبروست والشخصيات العديدة:


يتشعب بروست في الفصل الأخير بصورة خاصة للأمسيات بالمجتمع الراقي_وهذا الفصل الذي يختبر صبر القارئ_بأسلوب رصين حتىالنهاية يتخلله ظهور أسماء عديدة.كل التفاصيل من أولها ذكرتني بتولستوي في "الحرب والسلمصورة عامة للمكان وذهن متقد للحاضرين. ‏هوياتهم ومكانتهم ميراثهم وأصلهم.والأهم أحاديثهم (وهنا يخرج كثيرًا السارد العالم بالغيب).الراوي لا يغفل عن الخدم والوصيفات،وحتىعن أسماء الغائبين ممن ذكروا بالسهرة.ولكن تولستوي لا يقارن أبدًا،بالحرب والسلم يشعر القارئ بنفسه داخل العمل.كيف؟!




بداية يكتب تولستوي عن الشخصية 

المستضيفة،صالة الاستقبال ومائدة العشاء،المزهريات اللوحات الأزياء.والحاضرين فرد فرد !اسمه أصله شكله ملبسه تصرفاته تغيرملامحه.كل هذا بإيجاز وسهولة.


أكرر ما قلت سابقاً عن "الحرب والسلم":


بالنسبة لرواية تولستوي"الحرب و السلم " فتعتبر أمر آخر لا يقف على جانب،و يستحيل أن يسجل التاريخ وصف شامل لها ﻷنها بعيدةكل البعد عن التصنيف. ‏ليس ﻷنه تولستوي و لا ﻷنها الحرب و السلم و لا ﻷنها مجلدات ضخمة و لا حتى ﻷن أعظم النقاد و الكتاب وصفوهابأنها اللامثيل في جنسهابل ﻷنك ستعجز. ‏ستعجز عن الحصر الهائل لمشاعرك المتناقضة و الناقصة من النطق و اﻷخرى المتراصة فوقبعضها لانتظار دورها،و ستضيع و يمسكك البكاء فقطالبكاء لعظمة الحظ الذي جعلها تقع بين يديك..و لضعفك عن إيجاز جمال و بديع ماخلده اﻷدب في تاريخه.قراءة الرواية هي فن نثري إنساني حافل بالحياة. ‏

تولستوي قال: "ما كتاب "الحرب و السلم "برواية،و لا هو بقصيدة و لا هو بسجل وقائع تاريخية.الكتاب هو ما أراد المؤلف و ما استطاع أنيعبر عنه بهذا الشكل"



وهذا فقط عن حفلات وأمسيات الطبقة الرفيعة،وقد برع بروست في سرده عن الشخصية المستضيفة،حوالي مئة صفحة عن مكانة الدوقة"غرمانت"،وهذا يجعل من القارئ يستشعر مهابة الحضور هناك،بالمناسبة هذه الشخصية "أوريان" تمجد تولستوي فوق كل شيء.









تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحياة ما بين الشر والخوف و الاعتياد

تدوينة ديسمبر المعتادة،تأجلت عشرات المرات وهأنا أتيقن بكل مرة أن هذا الفعل يجعلني أفقد الكثير. أتذكر الشعلة الزرقاء التي رسمها جبران لميّ زيادة. لا أدري ما السبب وما علاقتها بيّ. ولكن أشعر أن هذه حالتي مع الكتابة مادامت اللحظة حاضرة والشعور والمشهد فالإلهام يتّقد والحاجة الملحة لذلك تشتتني عن الواقع. وبكل مرة أترك تلك اللحظة تخبو الشعلة بداخلي وأصبح هشة والقلق يزداد وكما قال كيركجارد هو الذي أضلني في السنوات القليلة الماضية أصبحت الحياة تتسارع معي وكأنما هناك  أحد ما يعيشها بدلاً مني. اتخذت قراراتٍ عديدة للرحيل من مراحل ومحطات والقدوم إلى أخرى مختلفة تمامًا عمّا أفكر به وأتوقعه ولله الحمد معظمها كانت تستحق القدوم إليها وهذا العام تضمن بعض من هذه القرارات قبل نهايته هل فعلاً الإنسان مُسير لا مُخير؟ ما زلتُ بكل مرة أبحث عن إجابةٍ لهذا التساؤل  الشهور الثلاثة الأخيرة ضربت كل العالم بعرض الحائط مع ماحدث بغزّة وما زال يحدث، أمرٌ مريع أن تتيقن بأن البشرية وكل حضاراتها وكل فظاعتها بالتاريخ لم تزل على ماهي عليه من وحشية وهيمنة حتى هذه اللحظة. الآن أتذكر كتاب "الخوف السائل" لباومان،هذ

الوجود الضبابي: اعتذار مع سبق الإصرار

بداية لا أعلم لمَ أشرح كل هذا على الملأ،وقد ترددت كثيرًا في الحديث عنه،لأنني فعلاً لا أستسيغ التبرير (خاصة إن كان بالأمور الشخصية) ولكن يعز عليّ أن الأمر أصبح يزعج المقربون بالواقع وهنا. لذلك وجب الحديث..والله المستعان. الحالة التي سأتحدث عنها هي عادة النسيان و الإهمال بالعلاقة والغياب بلا أي سبب..كل ذلك يعود لطبع متجذر منذ الطفولة لا يعلمه غير أمي،حتى أنا نفسي وبوسط المعمعة لم ألحظه!وقد أدركته بالثلاث سنوات الماضية على يد أقرب الناس لي ،أدركته كحالة مزمنة تمَكْنت مني برضا تام و تجاوب من طرفي.و ما أكثر الاضطرابات التي سببها لي بمواقف عدة.و ما زال الحال نفسه. الشرود المباغت،أو لنسمه الشرود المبالغ بأمره. أمي كانت تكرر عليّ أي أمر تريده،بحال غيابها أو احتياجها لي..تكرره وهي تنظر لي على اتساع عينيها مرددة: سمعتِ،فهمتِ..أنتِ معي؟ مع أمي لم أشعر أن بي مشكلة،فكل الأمهات هكذا يرون أطفالهم مميزين.و ما حدث قبل ثلاثة أعوام،لم أجد نفسي سوى أني أشرح لصديقتي "منى"هالة تحيط بي وتسبب لي حرج و مشاكل مع الآخرين..ولكنها بذات الوقت تربطني مع نفسي بطمأنينة وثبات،ول

الحب في الوحدة

                           نهرب مما و نحن نحيا بكل هذه العذابات،نهرب مما و لا نشوة تعادل طيران تلك الفراشات بداخلنا القاحل،نهرب مما ونظرة كافية لأن نعيش عمرين لأجلها،نهرب مما وابتسامة تتسرب بدمنا تنعشنا و بذات الوقت تؤلمنا..تؤلمنا!؟ إنه الخوف . نخاف من الرفض،نخاف من الهجر..نخاف من أننا نحب أكثر مما ينبغي،نخاف من الضعف،من الشجن،نخاف من الألم ،من عدم مقدرتنا على تحمل ثقل الألم،على وحشة الفراق ..نخاف من ابتلاع ليالي الحنين ،من العجز ..من الاستسلام للحسرة الباردة،من الركام الذي فاض بالرماد بداخلنا.نخاف من الخيبة التي تميتنا ببطء،الخيبة التي تنسف كبريائنا ( الخيبة من النفس) نخاف من أن يلمس أحدهم ذلك الوتر الحساس،من قدرته على إدراك تلك الرعشة. و أخيرًا نخاف من الفقد..من رهاب الفقد. و لأجل ذلك نفضل الهرب..نعم الهرب. لماذا الخوف و الهرب؟ لأننا لا نعرف من نحبه جيدًا لا نعرفه..حتى نأمنه. ولكن هل بإمكان الهرب،مواجهة الوحدة؟ الوحدة العظيمة. لريلكه نص يجمع بين الوحدة والحب،بل ويربط بينهما للوصول للحب الطويل، الحب الأكثر إنسانية..قبل قراءة النص،أرجوك "أيها القارئ يا شبيه