التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الداء البارتلبي

https://drive.google.com/uc?export=view&id=1zILxBVu3cVAwX4d6BCFcAjqmGI43Wzpf

"من ليلة إلى ليلة،أنتظر أن يحدث شيء،أعرف أنه لن يحدث،ولكنني إن لم أنتظر فلن يحدث بالتأكيد.وبحلول ليلة جديدة مماثلة لسابقتها،لم يحدث فيها شيء،أدرك أن ما حدث حقاً هو أنني على مرّ تلك الساعات التي مضت قد انتظرت،وهذا في حد ذاته شيء،إنه الجسر الذي يسمح بالعبور من ليلة إلى أخرى،إذ ثمة ليالٍ أسوأ،ليالٍ بلا انتظار"

كارلوس ليسكانو | الكاتب والآخر

بمقدمة الكتاب تصنف الناقدة وأستاذة الأدب الأروغوانية:
كارينا بليكسن
ليسكانو من ضمن "كتاب اللا"،وهم الذين حصرهم الأسباني أنريكه بيلا ماتاس.في كتابه "بارتلبي وأصحابه"،الكتاب يعتبر تكريم لبطل قصة ملفل،يتتبع فيه على لسان الراوي،وباء هجر الكتابة،لمن لا يقدر بدونها،وكذلك للذين يستمرون بالكتابة وهم مرضى به،ويتحدث عن الأدب وماهية الكتابة والذين لا يكتبون..كل ذلك أين وكيف استحال.

يقول ليسكانو بمدخل كتابه:
"إن M هو من ابتكرني وقد ابتكرني في الظلمة"
بعد ما تنتهي من قراءة الكتاب تتأكد من استشهادهم،بأن ليسكانو استحق أن يعتبر من عمالقة " أدب المقاومة"وهو الأدب الذي يولد نتيجة انفصال الكاتب عن نفسه،انفصاله كليًا،واستسلامه في خدمة الآخر الذي يظل يزعجه ويقتل استمراره في اللا.يقتل التمسك باختيار بارتلبي:"أفضّل ألا أفعلها"
يستهل ماتاس كتابه "بارتلبي وأصحابه"،بعبارة لجان دلا بروغييه:إن مجد أو جدارة بعض الأشخاص يتمثل في الكتابة الجيدة؛أما الآخرون فيتمثل في عدم الكتابة"
يالكثرة الأشباح الذين التقيتهم بهذا الكتاب،خمسة أعوام تفصلني عن قراءة كتاب ليسكانو ،استشفيت لنفسي منها مواساة أستطيع بها مجابهة ذات المعاناة،وبهذا العام لجأت للمبالاة،مبالاة يرأسها الملل وانتظار الدهشة،وبتحديات أخرى..كان لا بد من التصادم معها لضمان مستقبلي المهني (المادي) ولإرضاء والديّ..وطموحي من العلم.
و هاهو بطل ماتاس الأحدب،يشرح سبب اختياره لهذه المبالاة.بعد خمسة وعشرين عام من كتابته عن رواية حول استحالة الحب ..٢٥ عام من المقاومة..أليست شجاعة مرعبة؟!يوميات في جمع "هؤلاء المصابين بالمس،بهذا النبض السلبي"،"في متاهة اللا"
خوان رولفو في تبرير هروبه من الكتابة،قال عبارة..تختصر الحالة التي أعتبرها سبب مقنع لهذا الهرب بزمننا الحالي:"اليوم حتى مدخنو الماريجوانا ينشرون كتباً.لقد صدرت مؤخرًا كتب غريبة،أليس كذلك؟ أنا أفضل أن أبقى صامتاً"
الغريب أن معظم هؤلاء البارتلبيين هم كتاب نعرفهم،وامتلأ الأدب بنتاجهم..بعضهم شعراء وفلاسفة.سقراط مثلاً إذا نزلت عليه إشارة ربانية،وهو يخطو بالطريق مع الصحبة..يتوقف ويصمت! بشهادة أفلاطون كانت تمسه حالة هذيان جنونية..وبهذا يكون الصمت أفضل من القول،بالنسبة له فقد برر بأنه ينتظر الإذن من الرب حتى يقوله.بزمن سقراط كان التأمل حياة وعبادة..لكن ماذا عن الضجة بالقرنين الماضية،كيف باستطاعة أحدهم أن يصمت؟روبرت والسر..كان كذلك،اختار بأن يكون صفر على اليسار،رغم أنه ألهم الكثيرين من ضمنهم هرمان هيسه.خوسيه المعروف باسم ببين بيو،يعتبر النبي أو عقل جيل ال ٢٧ بالأدب الأسباني بجانب بونويل لوركا ودالي وغيرهم،عبقري متململ لحد الدهشة.كان يقول:"لم أكتب أبدًا بنية النشر،فعلته من أجل الأصدقاء،لكي نضحك ونتسلى"
https://drive.google.com/uc?export=view&id=1eWiwbm3HeW1oeHyrO8pzHfdIVYxFtYcy


ستاندال بيومياته 1795،كتب عن خدعة انتظار الإلهام التي تؤدي لهذا المرض.ما رغريت دوراس كانت متشبثة بعبارة رفض تامة: "أنا لا أحد"
كافكا،رامبو،بيكيت وجويس ،أوسكار وايلد وهرمان ملفل،كل هؤلاء كان لديهم هذا الرفض..وكل بطريقته.ملفل أكثر من عانى من هذا المرض ..وكان يقع بالفشل وينتكس.حتى أن بارتلبي النساخ.كان يجسد شخصية ملفل نفسه بمرحلة ما بحياته.
١٩٦٥ديفيد سالنجر صمت أدبي وحرص شديد حتى وفاته.البارون "دي تيفا" ويقال أنه أحد أنداد بيسوا،انتحر رافضاً للمضي ب "اللا" مثلما فعل الند الخبير "ألبارو دي كامبوس" الذي رمى بورق السيلوفان المغلف لقطعة الشوكولا..وبهذه الطريقة يكون قد رمى بالحياة،ما الذي ننتظره من أشخاص خلقهم بيسوا!بيسوا عاش لهذا الرفض كتابيًا..عاشه بكل تناقضاته.جوليس رينارد: 
"لست بأحد.مهما فعلت،لن تكون أحداً.تفهم أفضل الشعراء،وأعمق كتاب النثر،لكنك وإن قلت إن الفهم هو الشيء نفسه،فإنك ستكون قريناً بهم كمثل تشبيه قزم ضئيل بأحد العمالقة،لذا لست بأحد.ابك،اصرخ،اضغط رأسك بكلتا يديك،انتظر،اقنط،أعد التجربة،ادفع الصخرة.لن تكون أبداً أحداً ما"
بالإضافة لهؤلاء،هناك كتّاب عبروا عن هذا الرفض من خلال أعمالهم.ثيربانتس 1616، في الصفحة الأخيرة،من كتابه "برسيلس" يكتب إهداء عن هذه الرغبة:"البارحة قرئ على روحي القداس واليوم أكتب هذا،الزمن قصير،الرغبات تتكاثر والآمال في تضاؤل،ومع ذلك أمضي في حياتي برغبة في الحياة" 
وآخرون مثل جورج سيمنون،حارب الداء البارتلبي بالجهد النفسي في أسلوب الكتابة(41  رواية) حيث استمر بالكتابة ليصل معدل انتهائه من كتاب كامل في إحد عشر يوم بل وصل لسبعة أيام!
أما موبسان..فقد وصل به الحال للجنون.يا للأسى،بداية من حرص أمه الشديد ليصبح مثل معلمه فلوبير،مرورًا برغبته الملحة بأن يصبح خالداً.ونهاية بطريقة انتحار فاشلة،ثم المضي برغبة ملحة للجنون!
رامون خيمينيث الصرخة الغاضبة،بعد موت زوجته زنوبيا التي حرصت على أعماله بانضباط طوال سنوات عمره بالأدب.اعتزل الكتابة بعد الدفن مباشرة،بشهادة من الخادمة البالغة من العمر تسعين عام.بعد تلقي زوجته خبر فوزه بنوبل.ماتت باليوم التالي وهي تهمهم تهويدة بصوت يشبه خشخشة الورق..لم تواسيه تلك التهويدة..بل انقض على أعماله تحت قدميه قائلاً:"عملي الأهم هو ندمي على أعمالي" ومن تلك اللحظة أعلن دخوله بزمرة كتاب "اللا"
الظاهرة بالكتاب كان ألبير كامي..بالرغم من الشلل والعبث،كانت له طريقة معاكسة.حيث اعتبره ماتاس  كاتب ال "نعم" والقبول بامتياز.
الأشباح الأخرى بالكتاب،كانت لشخصيات غير معروفة،باعتقادي أن ماتاس كان يعرفهم أو سمع بهم من محيطه الخاص..بطل الرواية كان يتلقى المساعدة بجمعهم من صديق له بالمراسلة.
كل منهم له قصة بارتلبية بجدارة..توماس دي كنزي.اختار الأفيون على الكتابة.ونشر كتاب وحيد بعنوان:"اعترافات إنكليزي متعاطي أفيون"
إحدى أكثر القصص المؤثرة..من ضمن كتاب "اللا" الغير معروفين،كانت لكاتب قرر أن يصبح كاتباً بعمر الخامسة عشر.ولكنه ترك الفكرة للأبد ،وتحول لقطعة أثاث منسية.عاش لأجل الكتابة..حتى التقى فلوبير ،من بعدها حدث له شيء،جعله يشعر بنفسه كقطعة أثاث في الصالون.وهجر الكتابة.وتركه أقربائه ليموت كقطعة أثاث..كادو طلب بأن يكتب على شاهد قبره:"حاولت دون نجاح أن أكون كل الأثاث،لكنني حتى في هذه أخفقت.لأنني لم أكن طوال حياتي سوى قطعة أثاث واحدة،على أية حال وبعد كل شيء،ليس بالقليل ما جنيته،إذا فكرنا أن كل ما يتبقى ليس سوى صمت"
وقصة أخرى لبارتلبي آخر جمع روايته الوحيدة لسنوات..وبعد الموافقة على نشرها،بعثرها بالريح.
كاتبة أخرى شابة وملهمة لغوته،التقته بعمره الخامس والسبعين.تدعى "ماريان غانج" قيل أنها مؤلفة لمعظم قصائد أحد دواوينه،واعتبرت أكثر كتاب "اللا" سرية..باختيارها للصمت .
بيلا ماتاس نفسه،مرّ بهذه الحالة وكل هؤلاء أعادوه إلينا.وإن كان بطريقة جمعهم.
يختتم الرواية مع تولستوي والجملة الأخيرة في حياته..الجملة التي لم يكملها:
"افعل ما يتوجب عليك،وليح..."وهذا المثل الفرنسي القائل:"افعل ما يتوجب عليك ،وليحدث ما يحدث".المثل كان بمثابة رفض..رفض بعد كل ذلك النتاج العظيم.
ليسكانو قال:"كل شيء يبدأ من جديد،لا تعتقد بأي شيء،وإن ظننت أنك قد خلصت إلى شيء،حاول ألا تظهره،أن تمحوه على الفور،ألا تترك أي أثر لوجوده".
وبعد معاناة وترك لهذه التدوينة لعدة أشهر،و لساعات طويلة من الكتابة والتوقف..أريدها ختام لهذا العام الضبابي المنهك.و أتمسك بظل ريلكه..هل عليّ أن أكتب؟وهاهو يعطيني الجواب الشافي برسالة لشاب تائه مثلنا https://drive.google.com/uc?export=view&id=17plfpT9o0iWTv99y7PxyU4GhE7cyjate 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رفاهية القلق

قد تصبح الحياة عادية ولا شيء فيها يجعلنا نستيقظ بالغد، ما الذي يعزز هذا الشعور بالواقع؟ مرت ثلاثة أشهر على هذا الحال،أقول لنفسي كل يوم هل هذا الشعور عادي، أهو ملل أم اكتفاء أم هو اليأس! في كل مرة أريد إنجاز مهمة بسيطة من جدول العمل أجدني أنهض من على الكرسي وأذهب لأبحث عن أي شيء يجعلني لا أعود للمكتب، على الرغم من إدراكي أنني سبق وعشت مثل هذه المشاعر من قبل و لا سيما في بدايات الخطط طويلة المدى ،إلا أن الأمر هذه المرة مختلف. فقد كان يلازمني شعور ثقيل جدًا ، جلد للذات وخوف من فوات الفرص وتعب التأجيل، كنت أؤنب نفسي كثيرًا ،كان شعورًا مرهقًا بالفعل ولكنه كان يجبرني على البدء بالعمل وإنجاز المهام. هذه المرة لا أجد هذا الشعور بداخلي، أحاول أن أجد شيء ما يجعلني أعود لتلك الحساسية المفرطة اتجاه الزمن وسيلانه،والخوف من الاعتياد على حياة العبث،أحاول ولم أجده. ألاحظ مؤخرًا أنني صرت أشبه الكثير من النساء من حولي، كلما كنت بينهن أتذكر السنوات التي قضيتها من عمري وأنا أمقت حياتهن وهذا النمط الممل والكئيب من العيش،كنت أشعر أنها حياة خالية من حب الذات، حياة مليئة بالحسرة والندم على فوات الفرص.ولكن...

أبريل الميلاد: ولادة جديدة

منذ عام ٢٠٢٠ بكل شهر أبريل اعتدت تدوين ذاكرة سريعة أعود بها للوراء. ذاكرة أقتفي بها أثر تجارب جعلتني أفهم ذاتي وتصوري لما حولي، تجارب عشتها وتجاوزتها منذ الثاني من أبريل السابق وحتى الثاني من أبريل الحالي.  العام الماضي كان عامًا حافلاً اجتماعيًا ومهنيًا، واجهت فيه ما لم أتوقع أنني قادرة على مواجهته، وإن كانت النهايات مغايرة عما بذلته يكفي أنني تعلمت أن أصبح أكثر هدوءًا وأن أرفق بنفسي قبل كل شيء.   عمومًا هذه المرة لا أريد أن أتذكر إلا أمرًا واحدًا فقط، الأمر الأكثر أهميةً وثباتًا في ذاكرتي. حدث في سبتمبر الماضي وها هو اقترب تمامه، أمرٌ كنت أنتظره منذ عامين، انتظرته بين رجاء وخوف. هو موعد لقاء مع حلم يكبر بداخلي، لقائي مع طفلي الأول .أرجو أن تمضي أيامه المتبقية بكل خير وطمأنينة.  ما بين الخوف والفرح:  "الإنجاب" لطالما كنت أخاف هذا الأمر وقد كان سببًا في تجنبي الارتباط لسنوات. أن أصبح أُمّا لأحدهم وأن أجلبه لهذه الحياة ليس بالأمر السهل أبدًا، بكل مرة أفكر بذلك أتذكر مقولة "فرانز كافكا" لا يحضرني النص ولكنه عنى أن التربية أصعب مهمة تواجه الإنسان وقلما ...

ابريل الميلاد: الزمن ينتصر

قبل أن أكتب هذه التدوينة قرأت تدوينة ابريل الماضي،حتى أتذكر مالذي حصل بالأشهر الماضية ،حقيقة لا أدري كيف مرّت هذه السنة . منذ ابريل الماضي وحياتي تمضي بلا أية هوادة . لقد كان عامًا مزدهرًا جدًا بالنسبة لي ،مزدهرًا بالحب والرضا والطمأنينة،بالسكينة والحمدلله وإن كانت تزورني حالات قلق لأمرٍ ما زلتُ أجتهد في نيله ولكني أتلاشاه بأيام العبث والخفة المطلقة . حينما اقترب يوم ميلادي أدركت أن الزمن يمضي ولستُ بقادرة على عقد هدنةٍ معه . كما اعتدت بأعوامي الماضية مرةً قلتُ لنفسي هي محسوبة إلى أجل مسمى أعني الهدنة التي يغتالني فيها الزمن وأصبح بين الناس كائن ضبابي . كنت بذلك الوقت أقضي أيامها بجلد الذات ومراتٍ بالسكينة والرضا التام وبعضها بالعبث واللامبالاة . أمضيها بعزلة غير مرئية قد يصل بي الحال إلى هذيان مضنٍ ولا أطيق حالتي تلك،ولكني بالنهاية أخرج منها بنفسٍ خالصة من القلق والريبة . اليوم أشعر بأنني استسلمتُ لهاجس الزمن الذي رأيته كائنًا حيّ بالما...