التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الوجود الضبابي: اعتذار مع سبق الإصرار

https://drive.google.com/uc?export=view&id=16yKy--zKXTAE0U5j2HIVVs8pQd1mpXSs




بداية لا أعلم لمَ أشرح كل هذا على الملأ،وقد ترددت كثيرًا في الحديث عنه،لأنني فعلاً لا أستسيغ التبرير (خاصة إن كان بالأمور الشخصية)
ولكن يعز عليّ أن الأمر أصبح يزعج المقربون بالواقع وهنا.
لذلك وجب الحديث..والله المستعان.


الحالة التي سأتحدث عنها هي عادة النسيان و الإهمال بالعلاقة والغياب بلا أي سبب..كل ذلك يعود لطبع متجذر منذ الطفولة لا يعلمه غير أمي،حتى أنا نفسي وبوسط المعمعة لم ألحظه!وقد أدركته بالثلاث سنوات الماضية على يد أقرب الناس لي ،أدركته كحالة مزمنة تمَكْنت مني برضا تام و تجاوب من طرفي.و ما أكثر الاضطرابات التي سببها لي بمواقف عدة.و ما زال الحال نفسه.

الشرود المباغت،أو لنسمه الشرود المبالغ بأمره.
أمي كانت تكرر عليّ أي أمر تريده،بحال غيابها أو احتياجها لي..تكرره وهي تنظر لي على اتساع عينيها مرددة: سمعتِ،فهمتِ..أنتِ معي؟
مع أمي لم أشعر أن بي مشكلة،فكل الأمهات هكذا يرون أطفالهم مميزين.و ما حدث قبل ثلاثة أعوام،لم أجد نفسي سوى أني أشرح لصديقتي "منى"هالة تحيط بي وتسبب لي حرج و مشاكل مع الآخرين..ولكنها بذات الوقت تربطني مع نفسي بطمأنينة وثبات،ولا يحدث ذلك بغير الوحدة.

كنت أخبرها بمشاكل مع أهلي وبعض المعارف،وفجأة صرت أفهم أن الخلل بي.و المواساة كانت في تفهمها الشديد لوضعي،لأن الحالة تصيب أخوها "عادل" مهندس يكبرنا بعام.و قد لاحظتها بي من قبل بسبب ردي المتأخر على بعض الرسائل بمجموعة صديقات الدراسة.وخاصة أثناء النقاشات قالت كأني أتحدث لوحدي ولا أستمع لأحد! الأمر لا يقف على الشرود لوحده بل على سيل الكلمات بعده،تدفق غير واعٍ بالمحيط، سيل أعجز عن حصره.ولمن لا يعرفني للأسف تقبل الأمر صعب.الذي يحدث أنني أتواجد بينهم وأعي ما يحدث،ولكن فجأة أنفصل عنهم بلا وعي..وأظل أفكر وأفكر و غالباً لا أتذكر بما كنت أفكر بالضبط.فالأمر مثلما ذكرت تدفق يفيض بداخلي لدرجة أشعر بالتهاب بدماغي.

منى ساعدتني بتنبيهي المستمر،حتى أتحكم بهذه الحالة،وبأن أكون أكثر هدوء أثناء الحديث.والأهم أن أستمع..وأسحب فكري بقوة من الشرود.
وأن أتمسك بالأصوات من حولي.

منذ الطفولة كنت أستأنس وقتي مع نفسي،ولا أشعر بالزمن،بخلاف مرحلة الطفولة الأمر يتحول لمعاناة عندما تكبر..فأنت ملزم بمسؤوليات اتجاه نفسك والآخرين.

وبتناقض غريب أمتلك ذاكرة حادة نوعا ما،وللأسف ذاكرة عصيّة على النسيان لبعض التفاصيل أمامي،ولا سيما المؤلمة منها .
بحادثة ظلت بذاكرتي الصدئة،وأنا بالصف الرابع أذكر معلمة الرسم كانت مراقبة علينا بقاعة الامتحان بمادة الرياضيات،و قد كنت شاردة وفجأة رفعت أصابعي أسابق الوقت قبل انتهائه،وبدأت العد بسرعة وأدون الحلول (متأكدة أن نصفها إن لم تكن كلها كانت إجابات خاطئة)المعلمة انفجرت ضاحكة بصوت عالٍ واقتربت مني ومسدت شعري،وبعدها بأيام أهدتني قلم رصاص باللون الأزرق،لا أعلم كيف عرفت بأنه لوني المفضل ،وقتها جرفتني موجة سعادة للسماء.
وأصبحت تنتظر مني أن أكون أكثر اهتماماً وتركيزاً بالمحيط من حولي.وحدث بيوم ما أن أخطأت ولا أذكر ما الذي فعلته،أذكر أني أدخلت أحد طرفيّ القلم الذي أهدتني إياه بين قاعدة الكرسي (خشب)التي أجلس فوقها وبين أحد قوائمه الحديدية،وضغطت بقوة على طرف القلم الآخر الذي بالخارج فكسرته نصفين.وقد كانت تجلس أمامي بكل هدوء وكأني غير موجودة.
كنت غاضبة من ثقتها بي،وبأنني لست جديرة باهتمامها،وبأني أكره تجاهلها لخطأي،وبأنني استحقيت العقاب.ولكنها عاقبتني بالصمت.عاقبتني كما لم يعاقبني أحد من قبل.

بالأيام الأخيرة،دخلت بنقاش كاد يؤدي لفتك العلاقة بيني ومنى،ولكن هي الصدامات إن لم تقتلنا فهي تضربنا لتقوينا.و بجدية أدركت أن الوجود الضبابي كان أكبر مما تخيلت.
أدركت ذلك تحديداً بعد هذه الجملة التي كتبتها هي:
"الحين فهمت إيش يعني شخص موجود و غير موجود"
كانت تتحدث عن حضوري الغائب مع أهلي،وعن الثلاث سنوات الأخيرة و عن صمت أغسطس الطويل و مجاراة سبتمبر من بعده.
أنا مفقودة منذ ثلاثة أعوام،ولم أدرك حتى .رغم محادثاتنا ولقاءاتنا أنا لست موجودة.وانقطاعي بالآونة الأخيرة عن العالم لثلاثة أشهر هذا العام كان القلق بازدياد.
"فيه فجوة بعلاقتنا وجمود أنا ما عاد متحملته"
ردي كان لم أعد أقاوم،الحالة تزيد وبالفترة الأخيرة استسلمت،واستجد أن الوقت يمضي حتى مع نفسي بلا أي مقاومة وبلا أي فعل.والذبول سيد الموقف.مدت يدها لي وسحبتني ،وبرجاء الخوف دعتني للمقاومة وبأنها ستنتظرني لأشهر ولسنة ولسنتين ،فقط أن أبذل جهد لأجلنا.و ظنت بأن لا رغبة لي حتى.ولكن الصمت الذي كان يغطي العتب والألم،الصمت الذي عاقبتني به مثلما فعلت معلمتي،استفز داخلي.ووعدتها بأن أوازن بين الحياتين.وأن أتمسك بنا.مرّ الأسبوع الأول على خير.ما زالت هناك همهمة من ناحيتي ولكني صرت أرفع رأسي أثناء وقوف أحدهم أمامي أو بجانبي و أستمع له.
انضمت أختي الصغرى لأمي وصديقتي،أصبحوا الآن ثلاثة أشخاص يساعدونني بقدر انزعاجهم المصاحب لذلك،فقد كانت النصيحة تُقبل عليّ بصراخ مع شتيمة أحياناً..بالبدء كانت فرقعة الوسطى والإبهام حل جيد،وعند الحالات الطارئة يتم تكرار الكلمات بصوت عالٍ و ربما يحدث هزة بإمساك الكتفين..حسب الوضع يعني.

لا تنظروا إليّ كعديمة فائدة،على العكس تماماً أستنزف وقتي الثمين ما بين عملي بالصباح ودراستي بالمساء،وتدريس إخوتي الناشئة و قد اعتنيت بالكبار منهم وهم الآن بالجامعة.و أعتني بالأمور العائلية والمنزلية.أمي علمتني ذلك فهي أول من سحبني بقولها: "لا تكلمونها ،قلبها راقد" أمي استفزتني كذلك بالصمت.

الشرود علتي ونجاتي،نعم تمضي فترة لا أكون متواجدة ،مثلما حدث مؤخرًا بالعمل لست موجودة،وبالدراسة لست موجودة ومع الآخرين لست موجودة.لا أنام جيدًا وأضيق عندما يتجاوز نومي ستة ساعات،(بالأمس طوال اليوم عانيت من صداع عنيف بسبب الإرهاق)أصحو الصباح ينقضي حوالي ساعتين بالتفكير فقط..نفس الشيء بحلول المساء وبالضجة في الاجتماعات العائلية،وباجتماعات زملاء الدراسة والعمل..بماذا أفكر؟
غالباً بالحياة و الزمن وبالذات.

مع الأيام السيئة،يستمر الوقوف بالمنتصف،وأقف لأرى ما النهاية مع هذا الحال.وهذا ما تعلمته من الشرود..تمر أوقات لا أفعل بها شيء حرفياً فقط أراقب بصمت ،وبهذه الطريقة أخفف حمل ثقيل يقهرني إن عاكسته ،تمر أختي بجانبي وأنا أنظر لخارج النافذة لساعات،وتحرك كفها مفروجة الأصابع يميناً وشمالاً..تسأل أين وصلت؟

لا أذكر أين وصلت..ولكني تعلمت الثبات بمراقبة ميلان الشجر لا أكثر.

أشرد بين الناس،بالعمل والقراءة وبالاستماع أثناء المكالمة،أترك الآخر بعلامات استفهام مربكة،وبحرم الصلاة أشرد.وبكل مرة أكتب(حتى بسلسلة التغريدات) تصيبني الحالة وأنسى،ومؤخرًا أتململ من الرجوع وإكمال ما بخاطري.هذه التدوينة كتبتها بأكثر من طريقة وتركتها.و قد شردت بكل مرة فيها.بهذه شردت بنقش أمامي على الدرج لعدة دقائق.


اعتذار مع سبق الإصرار والمحبة،لمن تركتهم ينتظرونني،لمن لم أستجب لمناجاته وزارني بالمنام .أحاول أن أكون بخير حتى أعطي الأفضل،إن لم يحدث ذلك يتشوه داخلي ويولد الأسوأ للخارج.بكل عام أكبر تنحسر نفسي عن الحياة الإنسانية،ولكن الوحشة التي أعيشها مع الوحدة لا تقارن مع تلك التي بين الحشود.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحياة ما بين الشر والخوف و الاعتياد

تدوينة ديسمبر المعتادة،تأجلت عشرات المرات وهأنا أتيقن بكل مرة أن هذا الفعل يجعلني أفقد الكثير. أتذكر الشعلة الزرقاء التي رسمها جبران لميّ زيادة. لا أدري ما السبب وما علاقتها بيّ. ولكن أشعر أن هذه حالتي مع الكتابة مادامت اللحظة حاضرة والشعور والمشهد فالإلهام يتّقد والحاجة الملحة لذلك تشتتني عن الواقع. وبكل مرة أترك تلك اللحظة تخبو الشعلة بداخلي وأصبح هشة والقلق يزداد وكما قال كيركجارد هو الذي أضلني في السنوات القليلة الماضية أصبحت الحياة تتسارع معي وكأنما هناك  أحد ما يعيشها بدلاً مني. اتخذت قراراتٍ عديدة للرحيل من مراحل ومحطات والقدوم إلى أخرى مختلفة تمامًا عمّا أفكر به وأتوقعه ولله الحمد معظمها كانت تستحق القدوم إليها وهذا العام تضمن بعض من هذه القرارات قبل نهايته هل فعلاً الإنسان مُسير لا مُخير؟ ما زلتُ بكل مرة أبحث عن إجابةٍ لهذا التساؤل  الشهور الثلاثة الأخيرة ضربت كل العالم بعرض الحائط مع ماحدث بغزّة وما زال يحدث، أمرٌ مريع أن تتيقن بأن البشرية وكل حضاراتها وكل فظاعتها بالتاريخ لم تزل على ماهي عليه من وحشية وهيمنة حتى هذه اللحظة. الآن أتذكر كتاب "الخوف السائل" لباومان،هذ

الحب في الوحدة

                           نهرب مما و نحن نحيا بكل هذه العذابات،نهرب مما و لا نشوة تعادل طيران تلك الفراشات بداخلنا القاحل،نهرب مما ونظرة كافية لأن نعيش عمرين لأجلها،نهرب مما وابتسامة تتسرب بدمنا تنعشنا و بذات الوقت تؤلمنا..تؤلمنا!؟ إنه الخوف . نخاف من الرفض،نخاف من الهجر..نخاف من أننا نحب أكثر مما ينبغي،نخاف من الضعف،من الشجن،نخاف من الألم ،من عدم مقدرتنا على تحمل ثقل الألم،على وحشة الفراق ..نخاف من ابتلاع ليالي الحنين ،من العجز ..من الاستسلام للحسرة الباردة،من الركام الذي فاض بالرماد بداخلنا.نخاف من الخيبة التي تميتنا ببطء،الخيبة التي تنسف كبريائنا ( الخيبة من النفس) نخاف من أن يلمس أحدهم ذلك الوتر الحساس،من قدرته على إدراك تلك الرعشة. و أخيرًا نخاف من الفقد..من رهاب الفقد. و لأجل ذلك نفضل الهرب..نعم الهرب. لماذا الخوف و الهرب؟ لأننا لا نعرف من نحبه جيدًا لا نعرفه..حتى نأمنه. ولكن هل بإمكان الهرب،مواجهة الوحدة؟ الوحدة العظيمة. لريلكه نص يجمع بين الوحدة والحب،بل ويربط بينهما للوصول للحب الطويل، الحب الأكثر إنسانية..قبل قراءة النص،أرجوك "أيها القارئ يا شبيه