التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الحب في الوحدة


                          






نهرب مما و نحن نحيا بكل هذه العذابات،نهرب مما و لا نشوة تعادل طيران تلك الفراشات بداخلنا القاحل،نهرب مما ونظرة كافية لأن نعيش عمرين لأجلها،نهرب مما وابتسامة تتسرب بدمنا تنعشنا و بذات الوقت تؤلمنا..تؤلمنا!؟

إنه الخوف .
نخاف من الرفض،نخاف من الهجر..نخاف من أننا نحب أكثر مما ينبغي،نخاف من الضعف،من الشجن،نخاف من الألم ،من عدم مقدرتنا على تحمل ثقل الألم،على وحشة الفراق ..نخاف من ابتلاع ليالي الحنين ،من العجز ..من الاستسلام للحسرة الباردة،من الركام الذي فاض بالرماد بداخلنا.نخاف من الخيبة التي تميتنا ببطء،الخيبة التي تنسف كبريائنا ( الخيبة من النفس)

نخاف من أن يلمس أحدهم ذلك الوتر الحساس،من قدرته على إدراك تلك الرعشة.

و أخيرًا نخاف من الفقد..من رهاب الفقد.
و لأجل ذلك نفضل الهرب..نعم الهرب.
لماذا الخوف و الهرب؟
لأننا لا نعرف من نحبه جيدًا لا نعرفه..حتى نأمنه.

ولكن هل بإمكان الهرب،مواجهة الوحدة؟
الوحدة العظيمة.


لريلكه نص يجمع بين الوحدة والحب،بل ويربط بينهما للوصول للحب الطويل، الحب الأكثر إنسانية..قبل قراءة النص،أرجوك "أيها القارئ يا شبيهي يا أخي" أن تتمعن جيدًا في معانيه وتربطها بما هية الحب الحقيقي الواضح،الحب الذي يعاش مرة واحدة لا غير،و تقيسه بمنظور الحب بزمننا( زمن الضجة).

زمن نراه بالجزء الذي قال فيه عن الحب و الموت: "من ينظر بجدية يجد أنه لا يوجد للحب الصعب،كما للموت الذي هو صعب أيضًا،تفسير و لاحل،ولم يجد له أحد نصيحة و لا طريقاً؛و لن يوجد لتلك المهمتين اللتين تقبعان بداخلنا،و نعطيهما لمن بعدنا من دون أن نؤديهما،قاعدة مشتركة تقوم على اتفاق ويمكن التحقق منها"

ربما لمن سبق له شرف المحاولة يقترب من ذلك.و لكن هل وصل؟السؤال الأصح هل استطاع بلوغ تلك الوحدة؟


النص من كتاب "رسائل إلى شاعر شاب" مقتبس من رسالة للسيد كابوس .روما 14 مايو 1904:
" عليك ألا تحتار وأنت في وحدتك عندما تشعر أن شيئاً بداخلك يرغب في الخروج منها،فإن هذه الرغبة تحديداً،إذا استعملتها بهدوء ووعي وكأنها أداة،فستساعدك على مدّ وحدتك لتسع أرضا جديدة.لقد حلّ الناس كل شيء (بمساعدة توافقات) مستخدمين أسهل السهل من الجوانب؛ولكن من الواضح أننا يجب أن نلزم أنفسنا بالصعب ؛فكل حيّ يلتزم به،كل شيء في الطبيعة ينمو ويقاوم بطريقته،ويتميز من ذاته بذاته،ويحاول بأي ثمن أن يصبح نفسه على الرغم من كل ما يواجه من مقاومة.إننا نعرف القليل،ولكن الأمر المؤكد هو أننا يجب أن نلزم أنفسنا بالصعب،وهذه القناعة لن تتركنا.من الجيد أن يكون المرء وحيدا،لأن الوحدة صعبة؛إن صعوبة الشيء يجب أن تكون سببا إضافيا كي نفعله.كما أنه من الجيد أن نحب،لأن الحب صعب.والحب من إنسان لآخر: ربما يكون أصعب الأشياء التي أعطيناها،أقصى الأشياء،آخر التجارب والاختبارات،العمل الذي يعد كل عمل آخر مجرد إعداد له.لذلك لا يستطيع الشباب ،المبتدئون في كل شيء،أن يحبوا: يجب أن يتعلموا الحب.بكل الكيان،بكل قوة مجتمعة حول قلبهم الوحيد،الحزين،النابض إلى العلى،يجب أن يتعلموا كيف يحبون.ولكن وقت التعلم يكون دائما وقتاً طويلاً منغلقاً على نفسه،وهكذا يكون الحب ليستمر طويلاً متسعاً في الحياة: الوحدة،الانعزال المتنامي المتعمق لذلك الذي يحب.بداية الحب لا يعني الذوبان والتخلي والاتحاد مع الآخر،إذ ماذا سيكون اتحاد ماهو غامض وغير مكتمل،ولم يزل غير منتظم؟ إنها لمناسبة عظيمة للفرد كي ينضج،ويصبح شيئا في ذاته،ويصبح عالما،عالما لذاته من أجل شخص آخر،وهذه مهمة عظيمة وليست بالبسيطة،إنه شيء يختار ذلك الفرد ويدعوه إلى البعيد.فقط بهذا المعنى،كمهمة العمل على النفس " أن يصغي و أن يعمل مطرقته ليل نهار"،يمكن للشباب الاستفادة من الحب الذي يعطونه.الذوبان والتخلي وكل أشكال المشاركة ليست لهم( أولئك الذين ما زال عليهم أن يدخروا و يجمعوا الأشياء طويلاً طويلاً) لأن ذلك المتناهي هو ربما ما لا تكاد حياة البشر حالياً تكفيه.

لكن الشباب يتوهون عادة في ذلك كثيراً،مراراً وتكراراً: في أنهم (وهو في طبيعتهم ألا يكونوا صبورين) يذوبون بعضهم في بعض حين يغشاهم الحب،يبعثرون أنفسهم بما هم عليه من شتات واضطراب وارتباك...و لكن ماذا يجب أن يكون؟
و ما عسى الحياة تفعل بتلك الكومة من أنصاف الأمور المحطمة،التي يسمونها أموراً مشتركة بينهم،بل و يحلو لهم تسميتها سعادتهم،إن كانت تسير على مايرام،ويسمونها مستقبلهم؟ كل منهم يفقد نفسه من أجل الآخر،ويفقد الآخر و آخرين كثراً ممن كانوا يرغبون في المجيء.و يفقد الاتساعات والاحتمالات،و يتخلى عن إقبال الأمورالاستشرافية الهادئة و إدبارها في مقابل حيرة عقيمة،لم يعد ممكنا أن تثمر شيئا سوى بعض الاشمئزاز و الاحباط والفقر،و النجاة في صورة أحد التوافقات التي وضع كثير منها على أخطر الطرق لتكون بمثابة أكواخ حماية عامة.لا يوجد مكان في حياة البشر به مثل هذا الكم من التوافقات: توجد أشكال مختلفة مما اخترعوه من أحزمة نجاة،قوارب،أطواق نجاة؛عرفت النظرة الاجتماعية كيف تبتكرمختلف طرق الهرب،لأنها حيث مالت للنظر إلى حياة الحب على أنها متعة،كان عليها أيضا أن تجعلها في صورة سهلة و رخيصة و غير خطرة و آمنة،كما هي حال المتع العامة.
على الرغم من شعور كثير من الشباب،الذين يحبون بطريقة خاطئة،أي يبذلون أنفسهم ببساطة و من دون وحدة (وسيبقى ذلك في المتوسط على حاله) بضغط سوء الاختيار،وعلى الرغم من رغبتهم في جعل الحال التي تورطوا فيها قابلة للحياة و مثمرة بطريقتهم الخاصة،لأن طبيعتهم تخبرهم أن قضايا الحب،بصورة أقل حتى من غيرها من الأمور المهمة،يمكن حلها علانية باتباع هذا الاتفاق أو ذاك،و أنها قضايا تقترب من القضايا التي تكون بين إنسان و آخر،و تحتاج على أي حال الى إجابة جديدة وخاصة وشخصية فقط: و لكن كيف يمكن لأولئك- الذين ذابوا بعضهم في بعض و لم يعودوا قادرين على الحفاظ على الحدود الفاصلة بينهم و على تمييز أنفسهم  بعضهم عن بعض،و لم يعد لديهم شيء خاص بهم- أن يجدوا مخرجاً من داخل أنفسهم ومن أعماق الوحدة التي تقبع تحت الركام؟
إنهم يتصرفون انطلاقا من عجز مشترك ويقعون،إذا أرادوا تجنب ذلك التوافق الذي يخطر ببالهم ( ألا وهو الزواج)،في براثن حل توافقي آخرأقل صخباً ولكنه قاتل بالدرجة نفسها،لأن كل شيء حولهم يضج بالتوافقات؛لأنه عندما ينبني التصرف على وجود مشترك ذي أجواء غائمة،انصهر فيها طرفان مبكراً،فان هذا التصرف يكون توافقيا،حتى و لو كان غير معتاد تماماً،(أي في التصور المعتاد غير أخلاقي)؛حتى الانفصال يكون بمثابة خطوة توافقية،قرار غير شخصي وليد الصدفة من دون قوة و لا ثمار.
من ينظر بجدية يجد أنه لا يوجد للحب الصعب،كما لا يوجد للموت الذي هو صعب أيضاً،تفسير ولا حل،و لم يجد له أحد نصيحة و لا طريقاً؛و لن يوجد لتلك المهمتين اللتين تقبعان بداخلنا،ونعطيهما لمن بعدنا من دون أن نؤديهما،قاعدة مشتركة تقوم على اتفاق ويمكن التحقق منها.و لكن بالقدر نفسه الذي نبدأ به محاولة الحياة الفردية،تقابلنا تلك الأشياء الكبيرة وتقترب من كل منا اقترابا شديداً.إن المتطلبات التي يطرحها عمل الحب الصعب على تطورنا تكون أكبر منا ولا نكون،ونحن مبتدئون،قادرين على الوفاء بهم.و لكن إذا تحملنا ذلك الحب الحب و تقبلناه بوصفه حملاً وفترة تعلم بدلاً من أن نفقد أنفسنا في كل تلك اللعبة السهلة الطائشة،التي يختبئ الناس وراءها من أكثر شيء جدية في وجودهم،هكذا يمكن أن يتحقق،بطريقة ملموسة،تقدم بسيط وتخفيف عما سيأتون بعدنا؛و إن استطعنا ذلك لكان ذلك كثيراً.
لقد بدأنا فقط الآن نتمكن من النظر إلى علاقة فرد بفرد آخر بصورة موضوعية و من دون أحكام مسبقة،و محاولاتنا لأن نحيا مثل تلك العلاقات ليس لها حتى الآن نماذج لنحاكيها،و لكن يوجد بالفعل في تحول الزمن بعض ما يمكن أن يساعد حالة المبتدئين المتخوفة.

ستصبح الفتيات والنساء،في تفتحهن الجديد والخاص،مقلدات لسلوك الرجال ووقاحتهم أيضاً،و مكررات لمهن الرجال،و لكن بصورة مؤقتة.و سيتضح،من بعد الحيرة التي تنطوي عليها مثل تلك التحولات ،أن النساء قد قمن بذلك الكم و ذلك التغيير في محاولات التنكر(التي تكون عادة سخيفة)كي تنقين كيانهن الخاص من تأثيرات الجنس الآخر التي تشوههن.يفترض أن النساء،اللاتي تكمن فيهن الحياة و تسكن بصورة مباشرة و مثمرة وملؤها الثقة،قد أصبحن أناسا أكثر إنسانية من الرجل السهل،الذي لم يجذبه ثقل أي إثمار جسدي إلى ما تحت سطح الحياة،الرجل المتغطرس المتعجل الذي يسيء تقدير ما يدّعي أنه يحبه.إنسانية المرأة،بكل ما عانته من ألم و مهانة،ستظهر بعد أن تنتهي من تحولات مظهرها التي تسعى من خلالها للتخلص من توافقات كونها مجرد أنثى،و عندها سيتفاجأ وينكسر الرجال الذين لا يشعرون بعد بقدوم ذلك.في يوم من الأيام (وقد ظهرت بعض بوادره المؤكدة وأضاءت على الأقل في الدول الشمالية)،في ذات يوم ستوجد الفتاة أو المرأة التي لن يكون اسمها مجرد مقابل للذكورة،بل سيصبح شيئا في حد ذاته،شيئا لا يفكر المرء فيما يكمله أو يحده،بل يفكر فقط في حياته ووجوده: الإنسان الأنثى.

و هذا التقدم سيحول معايشة الحب،التي تعج حالياً بالتيه( وسيكون ذلك بداية ضد رغبة الرجال الذين عفا عليهم الزمن)،و سيغيرها من أساسها و يعيد تشكيلها إلى علاقة إنسان بإنسان،ولن تعود علاقة رجل بأنثى.وذلك الحب الأكثر إنسانية (الذي سيتسم بمراعاة غير محدودة وسيتم،سواء في عقده أو حله،في هدوء ووضوح وبطريقة جيدة) سيشبه أولئك الذين نعدهم بصعوبة ومشقة،سيشبه الحب الذي يتجلى في أن يقوم وحيدان كل بحماية الآخر و تحديده وتحيته.

فضلاً عن ذلك: إياك أن تعتقد أن ذلك الحب الكبيرالذي وضع فيك و أنت فتى صغير قد ضاع؛ألا يمكنك أن تقول أن هناك أماني كبيرة وطيبة قد نمت بداخلك في ذلك الوقت وبدايات ما زلت تعيش عليها حتى الآن؟ أعتقد أن ذلك الحب يبقى في ذاكرتك قوياً عظيماً لأنه كان أول حالة وحدة عميقة تعيشها و أول عمل داخلي قمت به لتشكيل حياتك.لك مني كل الأماني الطيبة،عزيزي السيد كابوس".


ترى ما هو الحب الكبير الذي اختتم به الرسالة؟!


و أنت أيها البعيد هل مددّت وحدتك لأرض جديدة..أم ما زلت تحتار بما داخلك؟

أتذكر ما قلنا عن آلام وحدتنا:"من ذا الوجع نذبل لكن نكبر بعزتنا بداخلنا"
25.12.2018


وأنت أيها القارئ هل باستطاعتك تعلم الحب الصعب؟





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحياة ما بين الشر والخوف و الاعتياد

تدوينة ديسمبر المعتادة،تأجلت عشرات المرات وهأنا أتيقن بكل مرة أن هذا الفعل يجعلني أفقد الكثير. أتذكر الشعلة الزرقاء التي رسمها جبران لميّ زيادة. لا أدري ما السبب وما علاقتها بيّ. ولكن أشعر أن هذه حالتي مع الكتابة مادامت اللحظة حاضرة والشعور والمشهد فالإلهام يتّقد والحاجة الملحة لذلك تشتتني عن الواقع. وبكل مرة أترك تلك اللحظة تخبو الشعلة بداخلي وأصبح هشة والقلق يزداد وكما قال كيركجارد هو الذي أضلني في السنوات القليلة الماضية أصبحت الحياة تتسارع معي وكأنما هناك  أحد ما يعيشها بدلاً مني. اتخذت قراراتٍ عديدة للرحيل من مراحل ومحطات والقدوم إلى أخرى مختلفة تمامًا عمّا أفكر به وأتوقعه ولله الحمد معظمها كانت تستحق القدوم إليها وهذا العام تضمن بعض من هذه القرارات قبل نهايته هل فعلاً الإنسان مُسير لا مُخير؟ ما زلتُ بكل مرة أبحث عن إجابةٍ لهذا التساؤل  الشهور الثلاثة الأخيرة ضربت كل العالم بعرض الحائط مع ماحدث بغزّة وما زال يحدث، أمرٌ مريع أن تتيقن بأن البشرية وكل حضاراتها وكل فظاعتها بالتاريخ لم تزل على ماهي عليه من وحشية وهيمنة حتى هذه اللحظة. الآن أتذكر كتاب "الخوف السائل" لباومان،هذ

الوجود الضبابي: اعتذار مع سبق الإصرار

بداية لا أعلم لمَ أشرح كل هذا على الملأ،وقد ترددت كثيرًا في الحديث عنه،لأنني فعلاً لا أستسيغ التبرير (خاصة إن كان بالأمور الشخصية) ولكن يعز عليّ أن الأمر أصبح يزعج المقربون بالواقع وهنا. لذلك وجب الحديث..والله المستعان. الحالة التي سأتحدث عنها هي عادة النسيان و الإهمال بالعلاقة والغياب بلا أي سبب..كل ذلك يعود لطبع متجذر منذ الطفولة لا يعلمه غير أمي،حتى أنا نفسي وبوسط المعمعة لم ألحظه!وقد أدركته بالثلاث سنوات الماضية على يد أقرب الناس لي ،أدركته كحالة مزمنة تمَكْنت مني برضا تام و تجاوب من طرفي.و ما أكثر الاضطرابات التي سببها لي بمواقف عدة.و ما زال الحال نفسه. الشرود المباغت،أو لنسمه الشرود المبالغ بأمره. أمي كانت تكرر عليّ أي أمر تريده،بحال غيابها أو احتياجها لي..تكرره وهي تنظر لي على اتساع عينيها مرددة: سمعتِ،فهمتِ..أنتِ معي؟ مع أمي لم أشعر أن بي مشكلة،فكل الأمهات هكذا يرون أطفالهم مميزين.و ما حدث قبل ثلاثة أعوام،لم أجد نفسي سوى أني أشرح لصديقتي "منى"هالة تحيط بي وتسبب لي حرج و مشاكل مع الآخرين..ولكنها بذات الوقت تربطني مع نفسي بطمأنينة وثبات،ول