"أولاد حارتنا السياسة و الدين"
في مقابلة مع الأديب بعد الاعتداء الغادر الذي وقع عليه..سُئِلَ فيها عن رسالته التي بعثها للأهرام أثناء تنظيمها لندوة بعنوان " نحو مشروع حضاري عربي"
في قوله: إن أي مشروع حضاري عربي لا بد أن يقوم على الإسلام،و على العلم.
و عن رأيه في المبارزات الكلامية التي طالها التحريف و التزييف على أصحابها.
و من ضمن رده الموجز..قال:
إن كتاباتي كلها ،القديم منها و الجديد،تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا،و العلم الذي هو أداة التقدم و النهضة في حاضرنا و مستقبلنا.
و أحب أن أقول: إنه حتى رواية "أولاد حارتنا" التي أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية.
بغض النظر عن تحليل القرّاء و غيرهم،و اللقاء المدرج في نهاية الرواية مع الأديب.
الكاتب أغرق نفسه لدرجة أنه ليس باستطاعته التبرير!
القرّاء و أعني قرّاء الأدب الحقيقيون،جميعنا نتفق على البراعة في رمزيتها ..الحاذقة و البسيطة في آن. في وصف طمع و جشاعة البشر،و إن طال الزمان عليهم،فقد ظل الظلم و الطغاة و فسادهم بؤرة العفن التي تؤرق حياتهم منذ بدء الخليقة..
و لكن محفوظ تجرأ على ما لم يسبقه عليه غيره من الرواة العرب..و
المسلمون خاصة.
خياله..في هذا العمل قفز للمحرمات ،التي تمنع حتى بخيال المرء بينه و
بين ذاته.فكيف بمن ينشرها على الملأ.و في زمنه تحديداً!
نعم الخيال عنصر هام بالرواية ،و إدخاله يؤثر بالشكل العام و قد يؤدي أحيان للفشل و السطوع بأحيان أخرى..مهما كانت غرابته .كمثال رواية "المعلم و مرغريتا"
اختياره للمحظور في مجتمعاتنا كانت جرأة مرعبة..فحتى مسميات شخصياته كانت تؤكد أنه تقصد الوقوع بذلك.
(رغم تفسيره بأن الجبلاوي يمثل الدين و ليس الإله) أما الأنبياء..حتى طريقهم الذي اختاروه للعدل و المحبة و نهاياتهم جميعها..تشابه عام قوي.
و تكرار إرثهم لأبيهم أدهم..لا يختلف عن تكرارنا لأبينا آدم.
و إدريس و سلالته الذي يخرج لأدهم و ذريته في كل زاوية..لا يختلف عن إبليس الذي يطاردنا.
غير أنه هنا بالضبط..بهذه النظرة الصغيرة نستطيع رؤية تجلي إيمان الكاتب..و دينه الذي يتأصل بكل أعماله.
فقد قال: " إن أهل مصر الذين أدركناهم،و عشنا معهم،و الذين تحدثت عنهم في كتاباتي كانوا يعيشون بالإسلام،و يمارسون قيمه العليا..دون ضجيج و لا كلام كثير.و كانت أصالتهم تعني هذا كله"
و في اشتراطه ألا يعاد نشر الرواية،إلا بعد أن يوافق الأزهر ..أكد حرصه الشديد على خاطر أهل الدين.و على أن تقع كتاباته في الموقع الصحيح لدى الناس.حتى و إن اختلف البعض منهم معه.
السؤال هنا..محفوظ بداية لماذا أقدم على ذلك،رغم أنه يعلم ما الضجة التي ستجتاحه و تؤلمه؟
أعتقد أن لثورة 23 يوليو علاقة بهذه المجازفة،ربما كان ألمه على ما حدث و تبعات ذلك ،فاق كل تصور لديه.
في كتابه " أمام العرش” حوار بين الحكام 1983 الذي نشره بعد 13 عام من رحيل عبد الناصر،و مضي سنتان على مصرع السادات.
استرسل الأديب على المرارة و خيبة الأمل التي أطاحت بمواطن مثقف عاصر ما قبل الثورة و ما بعدها و كان شاهد على قرنها العشرين و حتى وفاته مطلع الحادي و العشرين.
و لكن "أولاد حارتنا" استبقت الزمن قبل الكتاب في إطار عام للصورة ،فقد لاحت التخبطات إثر تداعيات ثورة 1952.و حكامها.
فكانت أول رواية يكتبها بعد سنوات الصمت التي سماها "سنوات اليأس
الأدبي"
قامت الثورة و نجيب محفوظ في السنة الأولى من عمر الأربعين،أي أن الرجل وقتها كان ناضج مدرك لأمور الدنيا.و بذلك كان يجسد حالة مثقف من عامة الشعب و له نظرة فاحصة.
ولد محفوظ 1911..و بعمر الثمان سنوات عاش ثورة 1919.و قد كان ينظر لسعد زغلول بأنه بطل و زعيم عاصره في عهده.
وبعد رحيله حلّ النحاس مكان زغلول.و كان يمثل بالنسبة إليه حقيقة و صفات الشخصية المصرية.
وبالمجمل تكونت لدينا شخصية روائي ازدهر في تقلبات ثورية سياسية حادة.
من 1956-1966 أنتج لنا مربع أعماله الذهبية و منه تشكلت فن كتابة القصة القصيرة.
و لا ننسى عمله " يوم قتل الزعيم" 1985
بالستينات محفوظ كان يحضر اللجنة الوطنية التي وضعت الميثاق..و يتخذ مجلسه بجوار محمد حسنين هيكل..بثقله و صمته .و يعود لمنزله و يتملكه الخيال الذي ولد من الواقع.
و هذا ما يجعلنا نتفق بأن الأديب لا يمكن أن ينفصل عن الواقع السياسي،لأنه ينظر بعين شاملة و رؤية أوسع..فقد كان أكثر حذراً من السياسي الذي يركز على التفاصيل فقط.
و بإمكاننا أن نجد الجواب في نشره للرواية و انجازه الفني البديع فيها
من قوله : "عندما أكتب لا أعبأ بشيء..أي شيء"
تعليقات
إرسال تعليق