التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القارئ بين التفاهة و موت المؤلف



             







اضطرابات القراءة نكسة لا نتجاوزها بسهولة.و ما أصعب منها إلا الهجر الطويل،ذكراه تظل اغتراب و كدر لا يموت.



الفتور البطيء مع القراءة ،يتسرب إلينا ،و يفعل مثلما قال كافكا لميلينا عن الكتابة: " هل تعرفين أنني عندما أحاول الكتابة عن ذلك أشعرأن سيوفاً تحيط بي بشكل دائري وتبدأ بالاقتراب من جسدي ببطء، و يبدأ العذاب حين تبدأ تلك السيوف بكشط جلدي و ليس و كأنها نخر،لا و إنما كشط للجسد .يبدو ذلك مرعبا جداً"

قد يكون هذا جزء من الألم الذي يشعر به القارئ،عندما يقترب من كتاب و لا يفعل غير تقليب صفحاته،و الأنكى عندما ينظر إليه عن كثب و لا يستطيع حتى التحرك و رفعه من مكانه.أتحدث عن القارئ الذي لا يمر يومان عليه بدون قراءة.

ماذا لو مرّ شهرين على الأقل و الحال معه لم يتغير.سنحاول أن نلخص ما يحدث معه بالأيام الأولى ..أسبوع مثلا؟

لو كان شخص مرتبط بعمل،هنا سيكون الحال أرحم_و إن كان مؤقتاً_بحكم أن الوقت الذي يتبقى له أقل ..لكن إن لم يكن كذلك؟

سيكون حاله مثلما قال أوكتافيو باث في رسالته لسوق الكتاب العالمي في فرانكفورت: " تحاصرنا العولمة من جهة،و التفاهة من الجهة الأخرى"



جزء من مفهوم العولمة هنا ينحصر في ضجة ما وراء الشاشة.

أما التفاهة التي ذكرها باث بنظري تنحصر في جمود المحيط،و انغماسه في التكرار ..و هذا هو الموت البطيء. عندما يسقط القارئ بين هذا و ذاك ..القارئ الذي تنتشله القراءة بكل خفة و طمأنينة و بذات السكون..و تبعده عن هذا الموت.

عندما يسقط في اضطراب مع القراءة..فإنه يصبح محاصر و مهدد بالتفاهة.

و للهرب من ذلك لا يفعل غير القراءة! و لكنها قراءة وهمية لا ينتج عنها سوى خلق كوابيس لأشباح متكدسة بجانب سريره أو على طاولته.

و الحال أنه يختل توازنه الذهني. فتجده لا ينتمي لشيء ،و لا شيء ينتمي إليه.

و ما إن يختنق حتى يبدأ الزحف بحثاً عن الخلاص..

" في العزلة كفاءة المؤتمن على نفسه"

إذا اتخذ هذه الخطوة فإنه على طريق التحرر من التفاهة،ومنها إلى الأرض الموعودة ..و هذا هو الإحساس الذي ذكره أوكتافيو باث في
 "متاهة العزلة"1950



 " إن الإحساس بالعزلة، الحنين إلى جسد انتزعنا منه، هو حنين إلى المكان. وهذا المكان، حسب تصور قديم يوجد عند كل الشعوب تقريبا، ليس إلا مركز العالم، سرة الكون. وأحيانا تتطابق الجنة مع هذا المكان"



لنعود للبداية ما الذي أوقع القارئ بكل هذا،قارئ يعتبر فعل القراءة أمر طبيعي بحياته؟

رولان بارت في كتابه" موت المؤلف "1968



نزع سمة القدسية التي تحيط بالمؤلف و انتقل لأهمية القارئ.. حيث أنه يمتلك الحرية الكاملة بأن يستبيح النص ،و يفعل به ما يشاء.

إذن القارئ بنظر بارت هو الناقد الأول و الأخير،و هو المبدع الذي يمتلك معاني عديدة للنص بدون أية شروط أو قيود.و حتى إنه يمتلك احتمال اللامعنى .و تباعاً لزمن معين فإنه اجتماعياً و ثقافياً يؤثر بتفسيره للنص

عبدالفتاح كيليطو قال:

"القارئ يقرأ النص انطلاقا من إهتمامات تخصه أو الجماعة التي ينتمي إليها ، القارئ يهدف دائما إلى غرض... يسعى إلى إثباته "

فالنص هنا يكتسب هوية القارئ.و يندمج كلاهما بالآخر.

و هذا ما عناه بارت في كتابه "لذة النص" 1973







"تستطيع لذة النص أن تقول: لا اعتذار أبدا و لا تبرير."  ،أي كأنها استسلمت للقارئ برضا تام حتى تصير بداخل وعيه متجسدة بصوره الخاصة قائلة له: "سأشيح بوجهي و سيكون ذلك هو كل نفيي"

الانتهاك هذا يصنع القراءة الواعية.و استعداد القارئ لاقتحام النص يبدأ بطرح الأسئلة و البحث عن الجواب..فالقارئ (الناقد) يدخل في تفاعل و حوار مع كيان النص. والقراءة هنا ليست بهواية للحظات معينة،بل هي نشاط ذهني واع.و هو يبحث فيها عن السمو و الخلاص و يحاول ربط واقعه بالحلم أو بناء الحلم في الواقع.

و هنا نقول أن باستطاعتنا معرفة السبب الذي أوقع القارئ في النكسة و من ثم للتفاهة.

القراءة الواهية التي يتعثر بها بحثا عن النص الذي يلتحم معه، وتفقده اللذة التي سبقه الكاتب إليها و خلق له فضاء لأجل متعته و رغبته اللامنتهية.قراءة مثل هذه تجعل من الحظ السيء حليفاً لها و تتحد مع المكان و الزمن الغير مناسب ضده.

قال رولان بارت في لذة النص متحدثا باسم القارئ الواعي : "على النص الذي تكتبونه أن يقدم اليّ الدليل على أنه يرغب فيّ."

بارت اعتبر أن القراءة هي العنصر الذي يساعد القارئ على القيام بدور فعلي ايجابي.نكرر هذه ليست بقراءة بسيطة أو بصرية.بل قراءة تأملية ثاقبة.

و بقراءة كهذه نحن أمام قارئ مختلف...و قد تعددت مسميات هذا النوع من القرّاء وذلك يعود لبعض الأسباب منها اختلاف القرّاء أنفسهم و درجة وعيهم و بالأثر الأدبي عليهم من جهة و لا ننسى أثر تعدد الترجمات من جهة أخرى.و قد أحصى الدكتور محمد المتقن أكثر من عشرين اسما مثل : الخبير ، الحقيقي ، الناقد ، المؤهل ، المقصود ، الافتراضي ، المعاصر ، الأصلي ، المثالي.... والواقع أن أغلب هذه الصفات ترجع لمسمى واحد ، ذلك أن القارئ الأصيل ،الخبير النموذجي يظل هو القارئ ذاته الذي له القدرة على اقتحام النص و نزعه من المؤلف..القارئ الواهب الذي يعطي حيوات متعددة للنص .

و لكن النص الذي باستطاعته فعل كل ذلك بوعي القارئ،ألا يبعث فينا هذا التساؤل..أليست السلطة و المعرفة تكمن بذاته؟!

أليس هذا النظام الشامل لديه القدرة بأن يسحب قوة القارئ و يقصيها بعيدا عنه،أليست كل المؤثرات و الجماليات و غيرها .لعبة النص التي تكمن في ثقافة القارئ و رصيده من المعرفة؟

هذا ما يراه أصحاب النقد الثقافي باختلاف اتجاهاتهم. يرون أن السلطة تقع على النص فقط.وأن النص الأدبي يعمد بدوره كرسالة أو خطاب مرتبط ببنية المجتمع.إذن أصبحنا أمام نقاد الثقافة لا شيء !!،فالقارئ يتبع النص و الثاني يملك السلطة الكاملة في موت القارئ بسبيل المؤسسة المنتجة.

و لكن الخوف لم يقف على موت القارئ...بل تجاوزنا ليصل الكتاب الورقي،مع العولمة التي تحاصرنا ومع التقدم الإلكتروني وسهولة الوصول لملامح معرفية عميقة،هل سنشهد موت الكتاب الورقي؟هل نمضي لجعله تحفة فقط.. نزين بها مكتباتنا.

قال ريلكه: أنا لا أفكر بالعمل،بل فقط في استعادة صحتي تدريجيا بواسطة القراءة،و إعادة القراءة ،و التأمل.

و لكننا ما زلنا في الأيام التي لا قدرة للقارئ فيها على الزحف؟

و حاله لا يختلف عن ريلكه: " كل ما فيّ ينهمر و يتبدد كالرمل بين الأصابع"

كل اضطراباتنا و منها تخبط القراءة لا سبيل لتجاوزها بغير العزلة،لطرد التفاهة و الأشباح المتكدسة ،و بالضبط تلك العزلة التي عناها باث في متاهته،و إن كانت تقترب من الإنسان المكسيكي فهي لا تختلف عن كل إنسان آخر.وتجاوزها شرط للاستمرار بالحياة..
فمهما ابتعدنا لنستعيد عافيتنا..لابد أن نعود لاستعادة بعضنا.



" متاهة العزلة ":

" نحن محكومون بالعيش في عزلة، لكننا محكومون أيضا بتجاوز عزلتنا واستعادة الصلات، التي كانت تربطنا بالحياة في ماض فردوسي. كل جهودنا تسعى إلى محو العزلة. هكذا يملك الإحساس بالعزلة دلالة مزدوجة: فمن جهة يدل على الوعي بالذات، ويدل من جهة أخرى على الرغبة في الخروج من الذات. إن العزلة، وهي شرط حياتنا، تبدو لنا كامتحان وتطهر، وفي نهايتها يختفي القلق والتيه. فالامتلاء والاجتماع، وهما راحة وسكينة وانسجام مع العالم، ينتظراننا في نهاية متاهة العزلة"

و هذا الهجر يحتاج تطهير:

"وقدرة العزلة على الإنقاذ تكشف عن فكرة غامضة لكنها حية، فكرة الخطيئة: فالإنسان الوحيد هو الذي «هجره الله». العزلة عقوبة، أي إدانة وتطهر. إنها عقوبة، لكنها أيضا وعد بنهاية منفانا. وكل حياة هي حياة مسكونة بهذه الجدلية."



عقوبة باث لا فرق بينها و بين المؤتمن على نفسه بمفهوم محمود درويش،و الذنب يقع على الاصطدام بالتفاهة..و مسايرتها.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رفاهية القلق

قد تصبح الحياة عادية ولا شيء فيها يجعلنا نستيقظ بالغد، ما الذي يعزز هذا الشعور بالواقع؟ مرت ثلاثة أشهر على هذا الحال،أقول لنفسي كل يوم هل هذا الشعور عادي، أهو ملل أم اكتفاء أم هو اليأس! في كل مرة أريد إنجاز مهمة بسيطة من جدول العمل أجدني أنهض من على الكرسي وأذهب لأبحث عن أي شيء يجعلني لا أعود للمكتب، على الرغم من إدراكي أنني سبق وعشت مثل هذه المشاعر من قبل و لا سيما في بدايات الخطط طويلة المدى ،إلا أن الأمر هذه المرة مختلف. فقد كان يلازمني شعور ثقيل جدًا ، جلد للذات وخوف من فوات الفرص وتعب التأجيل، كنت أؤنب نفسي كثيرًا ،كان شعورًا مرهقًا بالفعل ولكنه كان يجبرني على البدء بالعمل وإنجاز المهام. هذه المرة لا أجد هذا الشعور بداخلي، أحاول أن أجد شيء ما يجعلني أعود لتلك الحساسية المفرطة اتجاه الزمن وسيلانه،والخوف من الاعتياد على حياة العبث،أحاول ولم أجده. ألاحظ مؤخرًا أنني صرت أشبه الكثير من النساء من حولي، كلما كنت بينهن أتذكر السنوات التي قضيتها من عمري وأنا أمقت حياتهن وهذا النمط الممل والكئيب من العيش،كنت أشعر أنها حياة خالية من حب الذات، حياة مليئة بالحسرة والندم على فوات الفرص.ولكن...

أبريل الميلاد: ولادة جديدة

منذ عام ٢٠٢٠ بكل شهر أبريل اعتدت تدوين ذاكرة سريعة أعود بها للوراء. ذاكرة أقتفي بها أثر تجارب جعلتني أفهم ذاتي وتصوري لما حولي، تجارب عشتها وتجاوزتها منذ الثاني من أبريل السابق وحتى الثاني من أبريل الحالي.  العام الماضي كان عامًا حافلاً اجتماعيًا ومهنيًا، واجهت فيه ما لم أتوقع أنني قادرة على مواجهته، وإن كانت النهايات مغايرة عما بذلته يكفي أنني تعلمت أن أصبح أكثر هدوءًا وأن أرفق بنفسي قبل كل شيء.   عمومًا هذه المرة لا أريد أن أتذكر إلا أمرًا واحدًا فقط، الأمر الأكثر أهميةً وثباتًا في ذاكرتي. حدث في سبتمبر الماضي وها هو اقترب تمامه، أمرٌ كنت أنتظره منذ عامين، انتظرته بين رجاء وخوف. هو موعد لقاء مع حلم يكبر بداخلي، لقائي مع طفلي الأول .أرجو أن تمضي أيامه المتبقية بكل خير وطمأنينة.  ما بين الخوف والفرح:  "الإنجاب" لطالما كنت أخاف هذا الأمر وقد كان سببًا في تجنبي الارتباط لسنوات. أن أصبح أُمّا لأحدهم وأن أجلبه لهذه الحياة ليس بالأمر السهل أبدًا، بكل مرة أفكر بذلك أتذكر مقولة "فرانز كافكا" لا يحضرني النص ولكنه عنى أن التربية أصعب مهمة تواجه الإنسان وقلما ...

ابريل الميلاد: الزمن ينتصر

قبل أن أكتب هذه التدوينة قرأت تدوينة ابريل الماضي،حتى أتذكر مالذي حصل بالأشهر الماضية ،حقيقة لا أدري كيف مرّت هذه السنة . منذ ابريل الماضي وحياتي تمضي بلا أية هوادة . لقد كان عامًا مزدهرًا جدًا بالنسبة لي ،مزدهرًا بالحب والرضا والطمأنينة،بالسكينة والحمدلله وإن كانت تزورني حالات قلق لأمرٍ ما زلتُ أجتهد في نيله ولكني أتلاشاه بأيام العبث والخفة المطلقة . حينما اقترب يوم ميلادي أدركت أن الزمن يمضي ولستُ بقادرة على عقد هدنةٍ معه . كما اعتدت بأعوامي الماضية مرةً قلتُ لنفسي هي محسوبة إلى أجل مسمى أعني الهدنة التي يغتالني فيها الزمن وأصبح بين الناس كائن ضبابي . كنت بذلك الوقت أقضي أيامها بجلد الذات ومراتٍ بالسكينة والرضا التام وبعضها بالعبث واللامبالاة . أمضيها بعزلة غير مرئية قد يصل بي الحال إلى هذيان مضنٍ ولا أطيق حالتي تلك،ولكني بالنهاية أخرج منها بنفسٍ خالصة من القلق والريبة . اليوم أشعر بأنني استسلمتُ لهاجس الزمن الذي رأيته كائنًا حيّ بالما...